عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    06-Oct-2019

كيف ربحت طهران حربها الإعلامية الناعمة ضد واشنطن؟ - هند عبد الحميد

 

الجزيرة - في وقت تبدو فيه المعارك الدبلوماسية وتراشق التهديدات بين كلٍّ من طهران وواشنطن كطريق مُمهِّد لمعركة أخرى عسكرية هذه المرة، اختارت مؤسسة "صوت أميركا" المعروفة اختصارا بـ "VOA" طريقا مغايرا بإعلانها (1) يوم السابع من فبراير/شباط الماضي افتتاح خدمة جديدة للبث بالفارسية ضمن خدماتها العامة، وتحت عنوان "VOA365" بدأت الشبكة بتأسيس مرحلة جديدة من التواصل بينها وبين الناطقين بالفارسية والإيرانيين في أنحاء العالم كافة، علاقة كانت قد بدأت مطلع الأربعينيات من القرن المنصرم، عندما كانت كلتا الدولتين لا تزالان على جانب واحد من المعركة في مواجهة المد الشيوعي السوفيتي.
 
انطلقت (2) أول خدمة راديو بالفارسية تابعة لـ "VOA" مطلع الأربعينيات، مع بداية فترة حكم الشاه "محمد رضا بهلوي" وكجزء من برامج التعاون الثقافي بين طهران وواشنطن التي كانت تضع في الاعتبار حينها إنشاء حاجز واقٍ إيراني بينها وبين السوفييت، لتنطلق لتنفيذ مجموعة من البرامج الهادفة للتوعية بخطورة الشيوعية وأهمية التحالف الإيراني-الأميركي، ومن بينها كان برنامج إذاعي واحد يوميا يُبث بالفارسية على صوت أميركا تحت عنوان "Farsi Service"، قبل أن تتحوّل الخدمة على مر السنوات التالية إلى بث إذاعي وتلفازي بالفارسية على مدار الساعة.
 
لم تلقَ "VOA" الكثير من الدعم لا في طهران ولا في واشنطن رغم ذلك، ما جعلها بعد عدة سنوات تحت نيران الانتقادات القائلة إنها ليست سوى إهدار (3) لأموال دافعي الضرائب الأميركيين، باعتبار المؤسسة ممولة من الكونغرس الأميركي وتخضع لإشراف الحكومة الفيدرالية، وفيما تعددت أسباب هذه الانتقادات ما بين عدم إتقان القائمين عليها للفارسية، وجهلهم بالأوضاع السياسية في بلاد فارس وبالتاريخ الثقافي والحضاري للمنطقة ولإيران خاصة، ومرورا بمشكلات التعاقد ونقص العمالة، كان الانتقاد الأكثر حزما الموجّه للمؤسسة هو عدم قدرتها على استمالة قلوب وعقول الإيرانيين، وبما كان مفترضا أن يحقق جزءا من التأثير الذي كان لينفع الأميركيين ما بعد قيام الثورة في إيران عام 1979، ونشأة نظام ثيوقراطي جديد ومُعادٍ لكل ما تُمثّله واشنطن.
  
كانت أزمة الرهائن التالية للثورة الإيرانية أول حجر عثرة في علاقات واشنطن-طهران الدبلوماسية التي أخذت في الانهيار بعد ذلك، وفي حين سعت "صوت أميركا" بالفارسية لتحسين خدماتها في تلك الفترة، وتوظيف المزيد من الصحافيين والخبراء المتخصصين في الدراسات الإيرانية، لم يبدُ أن أمام المؤسسة فرصة في مواجهة الانطلاقة الإعلامية الناشئة والمُركزة للمؤسسات الإيرانية الإعلامية التابعة لنظام الملالي الجديد، والتي انطلقت لنشر وتصدير مبادئ ثورة "الخميني" للعالم.
 
لم تكن السلطة الدينية الجديدة تعرف فقط ما تفعل، سواء فيما يخص الإعلام أو شبكة واسعة أخرى من الخدمات الدينية والخيرية والتعليمية التي أنشأتها تاليا للثورة ووضعت سلطتها كاملة في يد المرشد الأعلى، بل وتعلّمت أصول اللعبة من أصدقائها السابقين في واشنطن، وانطلقت بميزانية ضخمة بعشرات الملايين متجاوزة ميزانية "صوت أميركا" بفارق دولاري واسع، لتلعب على أوتار التماسك الديني للمسلمين في المنطقة والشيعي خاصة، ولتدفع تلك الشبكة الجديدة أجندة شعبية تُرسّخ لأهمية الثورة الإسلامية الإيرانية كنموذج لإنشاء حكومات دينية رشيدة تحقق مبادئها وتواجه وتعارض كل ما هو غربي في المقابل.
 
تجلّى الفشل (4) الأكبر لمؤسسة "صوت أميركا" مع بداية الفترة الثانية من رئاسة أحمدي نجاد لإيران عام 2009، واندلاع المواجهات بين النظام وبين "الحركة الخضراء" المعارضة التي انهارت بعد أشهر دون قدرة على الاستمرار في مواجهة سلطة نجاد الأمنية والشعبية حينها، لكن سنوات طويلة من محاولات التأثير الشعبي على العامة من الإيرانيين من قِبل وسائل البث الأميركية والأوروبية في مقابل نجاح النظام الإيراني في البقاء والاستمرار على الرغم من الضغوط القاسية والمشددة التي تُبالغ أميركا في دفعه إليها، لا يدل فقط على عدم قدرة الوسائل الغربية على النفاذ للغالبية العظمى من الناطقين بالفارسية محليا وعالميا، بل كذلك على نجاح النظام الإيراني في استمالة قلوب وعقول تابعيه من خلال واحدة من أكبر الإمبراطوريات الإعلامية والخدمات العامة والجمعيات الخيرية في الشرق الأوسط، بل والجامعات والمؤسسات الإعلامية الحكومية ذات التأثير داخل إيران وعالميا، إمبراطورية بدأت معها طهران شن حربها الناعمة الخاصة ضد واشنطن؛ وهي حرب لم تفلح الأخيرة في مواجهتها بنجاح حتى الآن.
 
معركة الصوت الأعلى
اختار النظام الإيراني الجديد عام 1979 معركته منذ اللحظة الأولى للثورة، وفي حين يختصر البعض هذه المعركة فقط في معاداة كل ما هو غربي بشكل عام وأميركي خاصة، فإن الثورة بشكل فعلي كانت قد تجاوزت هذه المرحلة بمدى واسع ما بعد الثمانينيات والحرب مع العراق 1980-1988، والتي كان يُؤمّل منها الإطاحة بنظام الملالي، قبل أن يستغلها الأخير للترويج لنظرية المؤامرة القائمة ضد "الحكم الإسلامي"، ويتخذ منها ذريعة لإطلاق حرب التصريحات الخاصة به ضد واشنطن باعتبارها العقل المدبر للمؤامرة، وإن لم يتوقف الأمر على حروب التصريحات فقط.
 
وقد أدركت (5) السلطة الإيرانية الجديدة مبكرا أن مواجهة عسكرية مع قوة عظمى مثل أميركا لن تنتهي بنتيجة جيدة لها، خاصة بعد حرب طويلة ومدمرة كالتي مرت بها طوال الثمانينيات، واستوعبت كذلك أن المواجهة لا يجب أن تكون بالضرورة عسكرية وثقيلة، بل يمكنها ببساطة تحويلها إلى حيث تكون قادرة على التحرك بشكل أكثر فاعلية وتأثيرا وأقل تكلفة، مفهوم سيُعرف عالميا بعد ذلك بـ "القوة الناعمة" (6) التي حوّلتها إيران بشكل كبير منذ الثورة إلى "حرب ناعمة" في مواجهة أخرى كانت قد بدأتها واشنطن إعلاميا على الأقل من خلال مؤسسة "صوت أميركا".
 
بدأت المعركة مباشرة بعد الثورة بإنشاء "إذاعة جمهورية إيران الإسلامية" المعروفة اختصارا بـ "IRIB"، والتي شكّلت الحلقة الأولى للتواصل بين القادة الدينيين على رأس السلطة، وبين عامة الشيعة داخل وخارج طهران، وإلى جانب كونها الحلقة الأولى في سلسلة طويلة من القنوات الفضائية وإذاعات الراديو المدعومة من الدولة والمنطلقة من طهران بعد ذلك، وعلى سنوات متتابعة، فإن "IRIB" تُعد الأهم ضمن منظومة إعلامية ستكون مسؤولة عن بث صوت ورؤية الجمهورية الإسلامية للعالم.
 
تنبع أهمية "IRIB" الإستراتيجية من نواحٍ عدة؛ فكونها تُقدِّم تقاريرها إلى المرشد الأعلى والمسؤول عن تعيين مديرها العام قد جعلها على رأس قائمة مُتلقي التمويل الحكومي بقيمة تراوحت ما بين 900 مليون دولار ومليار دولار سنويا في الفترة ما بين 2009 ووصولا إلى 2012، ورغم انخفاض هذه القيمة إلى النصف تقريبا فيما بعد ذلك بسبب العقوبات الأميركية القاسية التي فرضتها واشنطن على طهران في تلك الفترة، فإن هذا لم يُفقد المؤسسة الإعلامية شيئا من أهميتها، والتي تتركّز في الرسالة التي حملتها منذ الثورة وحتى الآن مُجسدة سياسة "لا للغرب ولا للشرق" التي اتبعها النظام؛ دلالة على عدم تبعيته لأيٍّ من الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفيتي سابقا، وداعية نظريا لسيادة الدين الإسلامي ومعارضة كل ما يُمثّله الغرب سياسيا واجتماعيا واقتصاديا.
 
لم تكتفِ "IRIB" بكونها منبرا إعلاميا لرجال الدين، والمرشد الأعلى على رأسهم، وداعية لنشر الثورة في ربوع المنطقة والعالم كافة، بل اندفعت وراء هذا الطموح الأخير من خلال مجموعة القنوات التابعة لها، وبما جعلها مؤسسة لواحدة من أكبر (7) الشبكات الإعلامية غير الرسمية في دول ذات أهمية إستراتيجية لطهران مثل لبنان وأفغانستان والعراق ما بعد الحرب، وكانت هذه الأخيرة هي التي أنشأت لأجلها طهران قناة "العالم" بالتوازي مع الغزو الأميركي لها عام 2003، ورسمت بذلك أولى انتصاراتها الإعلامية الأيديولوجية على واشنطن.
 
ففي حين تكتفي القنوات الرسمية العالمية في واشنطن والغرب عامة بمتابعة أخبار العالم وغزو العراق خاصة من خلال فريق أو اثنين من الفِرَق الإعلامية المتخصصة التي تُرسلها لمناطق النزاع أحيانا، وتمتنع غالبا لخطورة هذه المناطق على مراسليها، أعادت قناة "العالم" ترتيب الأدوار لتقوم بتوزيع (8) هواتف محمولة وكاميرات فيديو على الشباب العراقي؛ واعدة إياهم بالدفع مقابل أية مواد تصلح للنشر تصلها منهم، بما جعل لها اليد الطولى في تغطية أخبار الغزو يوما بعد آخر، وأكسبها كذلك مصداقية لدى الشارع العراقي، ومنح طهران حجر أساس في عملية تحويل العراق من عدوها اللدود سابقا إلى واحد من أهم حلفائها الإقليميين بعد ذلك بسنوات، حليف سيساعدها على التغلب على العقوبات الاقتصادية والنفطية التي فرضتها واشنطن على نظام الملالي.
 
وقد أكسبت تجربة العراق النظام الإيراني ثقة في قدرته على قلب قواعد اللعبة لصالحه، ولو بعض الشيء، في حربه الطويلة مع أميركا، وبما مهّد كذلك لإعادة التجربة في أفغانستان التي تُنفق طهران 100 مليون دولار (9) سنويا لدعم المنظومة الإعلامية بها، بما يتخطى خمسة أضعاف الميزانية (20 مليون دولار) التي خصصتها واشنطن لـ "صوت أميركا" بالفارسية في مرحلة ما، وأكثر من 33 ضعف الميزانية (3 ملايين دولار) التي خصصتها في الفترة ما بين 2016-2018 لدعم منظمات غير حكومية إيرانية وتدريبها تحت إطار برنامج "تعزيز الديمقراطية" (10) في طهران، وبما اعتبرته الأخيرة محاولة جديدة من أميركا لقلب نظام الحكم.
 
يجعل هذا من واشنطن خاسرة عندما يتعلق الأمر بالسلطة الأيديولوجية لطهران على كلا الشارعين الأفغاني والعراقي، لكنه كذلك يجعلها خاسرة في طهران نفسها، ليس فقط لأن برامجها قد منحت السلطات الإيرانية مبررا لاستمرار معركتها مع الغرب وأميركا وبما يعود بالضرر على الاقتصاد الإيراني والإيرانيين أنفسهم، بل أعطتها كذلك سببا لمهاجمة مؤسسات المجتمع المدني بحجة التعاون مع دولة عدوة لقلب نظام الحكم، وكذا عرّضت أعضاءها -خاصة ممن تلقوا التدريبات الأميركية بالخارج- للسجن والمضايقات بمجرد عودتهم لطهران.
 
قد لا يُشكّل هذا فارقا بالنسبة لأميركا عندما يتعلق الأمر بالمواجهة العسكرية بين الدولتين، أو بفرض مزيد من القيود الاقتصادية التي لا تفلح إلى الآن سوى في زيادة معاناة الأكثر احتياجا في إيران، لكنه يضعها في مأزق عندما يتعلق الأمر بخلق قاعدة شعبية قد توفر حماية أكثر فاعلية لشبكات المصالح الأميركية حول العالم، والتي أصبحت مهددة، ليس فقط بإمبراطورية إعلامية تبث "مبادئ الثورة الإسلامية" حول العالم وتُمجد قادتها حتى في قلب أميركا نفسها، بل بأخرى تعليمية وخيرية ودينية أنشأتها طهران على مدار عقود متتالية لتربية تابعين عالميين مؤمنين بروح الثورة ومستعدين للتضحية من أجلها إذا ما سنحت الفرصة.
 
كالنقش على الحجر
 
كانت خطة الخميني وتركيزه جليّين في نطاقات التأثير الممكنة للثورة الوليدة؛ فالإعلام وحده لا يستطيع خلق مدافعين عن الثورة ومؤمنين بها حول العالم، لكن التعليم يمكنه كذلك، ولم يكن هذا التعليم يقتصر على مئات المراكز التي أنشأتها طهران لتحفيظ القرآن وتدريس التعاليم الدينية والأخلاقية ومبادئ الثورة في كل مكان بالعالم تقريبا، وفي دول العراق وأفغانستان ولبنان خاصة، بل تطوّر على عدة مراحل ليشمل واحدة من أكبر الشبكات التعليمية عالميا، والتي مثّلت كلٌّ من جامعتي المصطفى وآزاد الدوليتين خير مثال على دورها في حرب طهران الناعمة.
 
تُسمى المؤسسات التعليمية في إيران بـ "الحوزة" (11)، وتنبع أهميتها من كونها هي الأخرى على رأس الأشياء التي يُديرها مباشرة مكتب المرشد الأعلى؛ أمر اعتبره الخميني سابقا فرصة جديدة لإعادة تشكيل المجتمع كما يرغب به، إلا أنها كذلك تتبنى عملية التعليم على مراحل عدة، وبما يجعلها مُركزة وقادرة على إنشاء أجيال متتالية من أبناء الخميني في طهران وخارجها، خاصة أن مكاتب "الباسيج" والحرس الثوري الإيراني لا تنفك ترتبط بانتشار المراكز التعليمية والجامعات حول العالم، وتؤسس وجودها داخل الجامعات بمراكز تدريب للشباب من "المقاومين" (12) المستقبليين، كما يُسمون.
 
تأتي جامعة المصطفى الدولية على رأس القائمة حين يتعلق الأمر بحرب إيران الناعمة من خلال التعليم، فالجامعة التي أُنشئت بعد الثورة مباشرة أصبح لها الآن فروع في 60 دولة على الأقل، وإلى جانب مواقعها التعليمية على الإنترنت -لهؤلاء الذين لا يُمكنهم السفر لفروعها حول العالم- فقد تخرج في الجامعة ما لا يقل من ربع مليون طالب منذ نشأتها حتى الآن، يحمل بعضهم روح الثورة معه إلى حيث يعيش.
 
يتكرر المثال ذاته فيما يخص جامعة "آزاد"، وإن حظيت الأخيرة باهتمام خاص لعملها الطويل ضمن المؤسسات التعليمية الفاعلة في دولتي لبنان وسوريا، وبما يمنح طهران ميزة لم تمتلكها واشنطن يوما هناك، ألا وهي الولاء بين المئات -إن لم يكن الآلاف- من الشباب الذين وفرت لهم تعليما وتثقيفا ومساعدات، وفي حين اكتفى فرع الجامعة الرئيس في لبنان بالتوسع مؤخرا، فقد اتخذت طهران أفضلية في سوريا ما بعد اندلاع الحرب الأهلية لتبدأ خطوة افتتاح أفرع للجامعة في المدن السورية كافة؛ خطوة بدأتها مطلع يناير/كانون الثاني للعام الحالي بمباركة نظام بشار الأسد، وبرعاية "علي أكبر ولايتي"؛ أحد أهم مستشاري المرشد الأعلى للسياسة الدولية ورئيس مجلس مؤسسي الجامعة إضافة إلى مجلس أمنائها، وواحد من أكبر اللاعبين الخارجيين في حرب طهران الناعمة.
 
اتخذت الجامعة كذلك من العراق موطنا للعديد من فروعها في مدن ذات أهمية للشيعة وطهران كالنجف وكربلاء وبغداد، إلا أن الجامعات والمراكز الدينية لم تكن وحدها الفاعلة في العراق، فإلى جانبها كانت الجمعيات الخيرية التي اهتمت ورعت الفقراء والأطفال وكبار السن ومصابي المعارك مع القوات الأميركية وكذا أهالي المتوفين فيها، وعلى رأس هذه الجمعيات كانت "لجنة الإمام الخميني للإغاثة" وكذا "مؤسسة شهيد المحراب" (13) التي أُنشئت هي الأخرى مباشرة بعد الغزو الأميركي.
 
وعلى الرغم من أن منظمة الخميني هي الأكثر تأثيرا في مجال المساعدات الإنسانية التي تتبناها طهران عالميا، فإنه في العراق خاصة كان لشهيد المحراب -المعروفة باسم مؤسسة الحكيم- دور أكثر أهمية في استباق القوات الأميركية إلى التأثير في الشعب العراقي نفسه، والشيعة خاصة، وتماما كما حدث مع قناة "العالم"، فقد جلب فيض المساعدات الإنسانية الإيرانية للعراق العديد من المنافع، خاصة بعدما أصبحت الأخيرة واحدة من دول قليلة استثنتها الولايات المتحدة من عقوبات تجارة النفط مع إيران، هذا إلى جانب المساحة الحدودية الشاسعة التي يمكن لطهران استغلالها بعيدا عن القنوات الرسمية، فقط بوجود حليف مناسب لها في الداخل، وهو ما أوجدته بالفعل في "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق".
 
يمكن اعتبار حزب الله نموذجا مصغرا لما قد تكون عليه "دولة" ناشئة على الطراز الإيراني، الأمر الذي تُصر واشنطن على تجاهله في المقابل مكتفية بالجانب العسكري والاقتصادي
   
وفي الوقت الذي كانت القوات الأميركية فيه تطارد أي وجود لعناصر الحرس الثوري في العراق، كانت طهران ببساطة تخلق قاعدة عريضة من جنودها المخلصين من خلال المساعدات الإنسانية والمعونات، الأمر الذي انتبهت له واشنطن فيما بعد، وإن لم تُفلح في تجاوزه كون قواتها في النهاية غُزاة للأرض في إطار الصورة الشعبية الراسخة، على عكس "الجيران" القادمين للمساعدة من إيران، وبذلك استطاعت طهران أن تخلق لنفسها نمطا متكررا من تشكيل "دولة صغيرة داخل الدولة"، على أمل أن تكبر هذه الدويلة يوما وتصبح جمهورية إسلامية أخرى، وهو النموذج ذاته الذي نجحت في تنفيذه بالجنوب اللبناني، وعلى طريقة حزب الله.
 
التجربة الإيرانية اللبنانية
يُمثّل حزب الله (14) أكثر من مجرد مجموعة مقاومة تتبنى النهج الإيراني في الجنوب اللبناني، وتتخذ من مبادئ الثورة الإسلامية ومهاجمة الغرب وأميركا وإسرائيل قولا وعملا شعارا لها، فهو يتشكّل من مجموعة واسعة من المؤسسات التي تتراوح ما بين المراكز الدينية والقرآنية والمؤسسات الخيرية والحزب السياسي وكذا محطة فضائية وشبكات للتواصل الاجتماعي، وبإضافة ترسانة الأسلحة التي لا تنفك طهران تزوده بها؛ يمكن اعتبار حزب الله نموذجا مصغرا لما قد تكون عليه "دولة" ناشئة على الطراز الإيراني، الأمر الذي تُصر واشنطن على تجاهله في المقابل مكتفية بالجانب العسكري والاقتصادي كما تجلّى في تسمية الحزب منظمة إرهابية والعقوبات الاقتصادية ضده.
 
لم تكن واشنطن متجاهلة على طول الطريق على الرغم من هذا، بل ربما كانت هي من وضعت قواعد كتيب ألعاب الحرب الناعمة بينها وبين طهران، قبيل الثورة بعقدين، وفي مطلع الخمسينيات تحديدا، حين بدأت الإدارة الأميركية "برنامج الدبلوماسية الثقافية المركز" (15) في إيران، وبرعاية "إدوارد ويلز"؛ مدير مكتب وكالة الاستعلامات الأميركية (16) "United States Information Agency" في طهران، تولّت الوكالة عملية تغيير العقول والقلوب بطول إيران وعرضها مفتتحة عشرات المكتبات التي موّلتها بالكتب والمجلات والأثاث والتدريب اللازم للمسؤولين عنها، كما قامت على تنفيذ مجموعة واسعة من ورش العمل والمحاضرات التي كانت تستهدف في النهاية دعم الوجود الأميركي بإيران ضد السوفييت على حدودها القريبة.
   
لم يستمر البرنامج طويلا بالرغم من أثره البعيد، وبجانب برنامج التبادل اللغوي الذي كانت ترعاه أيضا "USIA" والذي كان يتداخل مع نظام التعليم الإيراني حينها بما يسمح لها بالوصول بشكل أكثر سرعة وفاعلية للعامة، وللشباب الإيراني خاصة، يمكن القول إن واشنطن كانت صاحبة الحركة الأولى على رقعة الشطرنج التي تحكّمت فيها طهران ما بعد الثورة بشكل شبه كامل، بل وابتدعت قوانينها الخاصة للعبة لتسمح على سبيل المثال لرجال الدين على رأس الجمعيات الخيرية -المعفية من الضرائب- بالمشاركة في الأنشطة التجارية والمالية في الدولة وخارجها، وبما أسس لقوة هذه الجمعيات المالية، التي تتراوح ما بين 10-20% من قيمة الناتج الإجمالي المحلي للدولة، والتي دفعت بنظام الملالي للاستمرار والاستقرار على مر هذه السنوات رغم الأزمات الاقتصادية الطاحنة الناتجة عن عقود طويلة من العقوبات.
 
سمح النظام كذلك بتحوّل الحرس الثوري من مجموعات عسكرية مقاتلة خلال حرب الثمانينيات إلى مؤسسة اقتصادية قوية عالميا، من خلال شبكة واسعة من الشركات الاستثمارية في مجالات النفط والصناعات التقنية والبنية التحتية وصناعة السيارات، أضف إلى ذلك جامعة "خاتم الأنبياء" التابعة للحرس الثوري وقناة فضائية تلفازية خاصة به وكذا شبكة واسعة من الجمعيات الخيرية ومراكز التعليم الديني، وغيرها من الخدمات التي يقدمها الحرس حصريا داخل طهران وخارجها، كل هذا قد منحه والنظام الإيراني يدا عليا حينما يتعلق الأمر بالقاعدة الشعبية من الشيعة المستعدين للذهاب إلى أي مكان لخدمة النظام والقائمين عليه، وليس فقط الشيعة في هذا النطاق.
 
أسس النظام لنفسه جيدا في هذا النطاق، وبخدمات "منظمة الثقافة والعلاقات الإسلامية" المعروفة اختصارا باسم "ICRO"، أرسلت طهران وفودها الفنية لإقامة المعارض الثقافية وطباعة الكتب بأكثر من 25 لغة تؤكد من خلالها مبادئ التسامح الإسلامي والتشابه بين المجتمعات الشيعية في دول كالعراق وأفغانستان ولبنان وبين المجتمعات المسلمة في أنحاء العالم كافة، وبما يؤطر لجزء أصيل من عملية تصدير الثورة الإيرانية عالميا، وفي مناطق من آسيا وأفريقيا و أميركا الشمالية، وعلى بوابات الولايات المتحدة الجنوبية في دول كالمكسيك وفنزويلا وغيرها من دول أميركا الجنوبية (17)، وبما قد يمنح طهران فرصة مستقبلية لتهديد واشنطن في عقر دارها، وأن تحمل الحرب إليها بدلا من البقاء داخل حدود الشرق الأوسط.
 
لا تعتبر إيران متفوقة على الرغم من هذا إلا في معركة محدودة، وربما غير ذات تأثير كبير إذا ما قررت أميركا استغلال تفوقها العسكري في هجوم مسلح، أو اتخذت طريقها صعودا في زيادة القيود الاقتصادية المشددة بالفعل على الإيرانيين، ففي النهاية لن يستطيع النظام الإيراني الصمود كثيرا في معركة توفير الاحتياجات الرئيسة لشعبه مع الحظر الأميركي المتزايد، لكنه -ودون أن تنتبه واشنطن- قد يُساق بهذه العقوبات إلى معركة حياة أو موت غير آبه بالخسائر القائمة بالفعل، وهو ما لن يدع أميركا في موقف تُحسد عليه حينها، خاصة أن أحدا قد لا يعلم من هم المدافعون القادمون عن النظام الجديد وسط الآلاف من الشباب الذين تربيهم طهران على عينها ليل نهار في أنحاء العالم كافة.