عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    02-Dec-2025

حرب الدولة على الإشاعة*أ. د. ليث كمال نصراوين

 الراي 

في زمن يتسارع فيه تدفق المعلومات وتتداخل فيه منصات التواصل الإلكتروني، تبرز الإشاعة كإحدى أخطر الظواهر التي تهدد أمن الدول واستقرارها وتماسك المجتمعات فيها. فمع التطور التكنولوجي الرقمي وسهولة آليات الاتصال، لم تعد الإشاعة بحاجة إلى كثير من الجهد كي تنطلق وتنتشر كالنار في الهشيم؛ إذ يكفي أن تصدر عن شخص حاقد أو جاهل، وأن تجد ثغرة في منسوب الثقة العامة أو فراغا في الوصول إلى المعلومة أو ظروفا داخلية وخارجية مواتية، حتى تتحول إلى ما يشبه الحقيقة في وعي الناس.
 
ولا يكون للإشاعة حد أو فئة محصنة من سهامها، فمطلق الإشاعة يتجاوز كل الحدود ويوجهها في أغلب الأحيان إلى رأس الدولة في محاولة للنيل من هيبته ومكانته الدستورية، فالحاكم يمثل ركنا ثابتا في البناء الوطني، وأي محاولة لزعزعة صورته أو تشويه مركزه تترك أثرا كبيرا على الرأي العام مهما بدا الخبر تافها أو مختلقا.
 
وليس بالضرورة أن يكون مصدر الإشاعة وطنيا ومحليا، بل إن أخطر أنواع الإشاعات تلك التي تتسلل من خارج الحدود، عبر صحف أو منصات إعلامية أجنبية، خصوصا تلك التي تصدر عن دول أو جهات تتربص بالأردن وتسعى إلى خلخلة نسيجه وتماسكه المجتمعي. فالإشاعة التي تأتي من صحفي خارجي أو محلل "استراتيجي" أجنبي تبدو في ظاهرها مهنية، لكنها قد تحمل في طياتها أجندات سياسية خفية تستهدف ضرب ثقة المواطن بمؤسساته، أو إثارة الشكوك حول قيادة الدولة، أو خلق مشهد مضطرب في الداخل يخدم مصالح أطراف معادية.
 
وتكتسب هذه الإشاعات العابرة للحدود خطورتها لأنها تستغل صورة الإعلام الدولي وسمعته، ولأن بعض الجماهير قد تتعامل معها بقدر من التصديق يفوق ما تمنحه للمصادر المحلية، خاصة في ظل انعدام الثقة بالإعلام الوطني والانطباع السلبي الذي تكوّن لدى الشارع الأردني أن ما يتم نفيه حكوميا هو الحقيقة بعينها. وهذا الواقع يضاعف الحاجة إلى وعي نقدي قادر على التمييز بين الخبر الموضوعي والحملات الممنهجة، وإلى جهود استثنائية من القائمين على إدارة شؤون الدولة بشكل عام، والإعلام بشكل خاص، لإعادة التفكير مليا في كيفية استعادة الثقة الشعبية بالرواية الرسمية.
 
ومن منظور قانوني، فقد تنبّه المشرّع الأردني مبكرا إلى خطورة الإشاعة ودورها في إثارة البلبلة وتقويض الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، فاعتمد منظومة قانونية واضحة تجرّم نشر الأخبار الكاذبة والمضللة، وذلك في العديد من القوانين الجزائية ذات الصلة.
 
فقانون العقوبات يتضمن بين ثناياه نصوصا تجرّم كل من يروّج لخبر كاذب أو مبالغ فيه من شأنه النيل من هيبة الدولة أو إثارة الذعر بين الناس أو الإساءة إلى المؤسسات العامة، في حين جاء قانون الجرائم الإلكترونية لعام 2023 ليضيف مظلة جزائية أكثر صرامة في مواجهة الإشاعة، خاصة في الفضاء الرقمي الذي يتسم بسرعة الانتشار وضعف الرقابة، بحيث يفرض عقوبة الحبس لمدة ثلاث سنوات وغرامات مالية كبيرة تصل إلى عشرات الآلاف من الدنانير على كل من ينشر أو يعيد نشر معلومة يعلم أنها كاذبة وتمس السلم المجتمعي أو الأمن الوطني أو العلاقات الدبلوماسية أو رموز الدولة.
 
كما يفرض قانون المطبوعات والنشر التزاما مهنيا وأخلاقيا على وسائل الإعلام بضرورة التحقق من صحة المعلومات وعدم بث ما يتضمن افتراء أو تضليلا، فيما يحظر قانون حماية أسرار ووثائق الدولة تداول أو نشر معلومات غير صحيحة يُنسب بعضها زورا إلى جهات رسمية. وهذه المنظومة المتكاملة تؤكد أن النظام القانوني الوطني ليس عاجزا عن مواجهة الإشاعة، بل يمتلك الأدوات التشريعية القادرة على ملاحقة مروّجيها وردعهم حماية للصالح العام.
 
وإلى جانب المسار القانوني، الذي قد يكون من المتعذر اللجوء إليه في حال كان مصدر الإشاعة خارجيا، فإن الرد على الإشاعة أو تفنيدها ليس هو الطريق الوحيد ولا الأكثر حكمة دائما. فالدولة التي تنشغل في مطاردة كل خبر أو بيان بحثا عن صدقيته تعرّض نفسها لدوامة ردود قد تمنح الإشاعة قيمة لا تستحقها. وقد يكون الصمت المدروس في كثير من الأحيان أقوى أثرا من بيانات التوضيح، ما دام الإطار القانوني حاضرا، والحقيقة راسخة، والثقة بين الدولة والمواطنين متماسكة.
 
فليست كل إشاعة تستحق الرد، ولا كل تداول يوجب التوضيح، وإنما العبرة في تقدير الأثر المحتمل على المصلحة العامة وعلى الوعي الجمعي. وهنا يتكامل القانون مع الحكمة السياسية ليشكلا معا أسلوبا رشيدا في إدارة الفضاء العام والتعامل مع الشائعات دون أن تنجر الدولة إلى معارك جانبية لا طائل منها.
 
وفي مواجهة هذه التحديات، لا بد أن يجتمع مساران متوازيان؛ الأول هو التطبيق العادل والحازم للقانون، بحيث يدرك كل من يحاول العبث بالأمن النفسي للمجتمع أن هناك منظومة قانونية قوية تلاحقه، وأن نشر الإشاعة ليس فعلا عابرا يمكن تجاوزه. والمسار الثاني هو تعزيز الثقة بين المواطن ودولته، لأن الإشاعة لا تجد بيئة خصبة إلا حين تضعف هذه الثقة. فعندما يثق المواطن بالمؤسسات ويؤمن بأن الدولة لا تخفي عنه الحقيقة ولا تتردد في شرح ما يلزم شرحه، يصبح أكثر مناعة تجاه الإشاعات وأقدر على تمييز الحقيقة من التزييف. فالدولة التي تحسن تطبيق القانون وتحسن التواصل مع مواطنيها في آن واحد، تبني لنفسها جدار حصانة يحول دون تغلغل الشائعات أو تأثيرها.