عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    01-Aug-2020

الحرب المؤجلة - عبد الحليم قنديل

 

القدس العربي - رغم الروايات المتضاربة عن الذي جرى قبل أيام عند «جبل روس» في منطقة مزارع شبعا اللبنانية المحتلة، فإن أحدا لا يصح له أن يستبعد احتمال حدوث انفجار حربي واسع بين «حزب الله» وكيان الاغتصاب الإسرائيلي.
رواية كيان الاحتلال قالت ـ كما هو معلن ـ أن خلية من «حزب الله» تسللت وأطلقت النار، وأن إسرائيليا لم يصب بسوء، وبعد ساعات من الصمت التكتيكي، نفى «حزب الله» أي تحرك من قبل عناصره، ووصف الرواية الإسرائيلية بالكاذبة، وقال إن الاحتلال بادر إلى قصف مناطق في جنوب لبنان، وعلى نحو عشوائي، يعكس خوفه وقلقه من رد «حزب الله» المقبل حتما، في إشارة إلى ما يسميه «حزب الله» معادلة الردع، التي استنها بعد اغتيال اثنين من عناصره في غارة إسرائيلية على سوريا، وسقوط طائرتي استطلاع إسرائيليتين مسيرتين على منطقة الضاحية الجنوبية ببيروت أواخر أغسطس/آب 2019، ورد الحزب وقتها بقصف آلية عسكرية إسرائيلية في منطقة «أفيفيم»، وهو موقف تكرر مثيله في 20 يوليو/تموز المنقضي، باغتيال عنصر من حزب الله في غارة إسرائيلية بالقرب من مطار دمشق، وتوقعت إسرائيل ردا طبقا لمعادلة الردع، وصورت الحادث المكذوب الأخير كأنه الرد المنتظر، وهو ما نفاه «حزب الله»، واحتفظ بحق الرد، الذي قد لا يشعل حربا كبيرة توا، لكنه لا ينفي احتمالاتها بالجملة.
وقد تميل أغلب الآراء إلى عدم توقع حرب شاملة على الجبهة الشمالية لكيان الاحتلال، ولأسباب تبدو وجيهة، بينها أن إسرائيل لا تريد حربا قريبة مع «حزب الله»، وأن رئيس وزراء العدو نتنياهو مشغول بمتاعب داخلية متفاقمة، من نوع المضاعفات الاقتصادية لجائحة كورونا، وتزايد وتيرة المظاهرات الغاضبة ضده، وضعف استقرار حكومته المشتركة مع بيني غانتس رئيس الوزراء البديل، ووزير الدفاع، الذي لا يبدو مطمئنا تماما إلى نوايا نتنياهو، الذي قد يفكر بالدعوة إلى جولة انتخابات رابعة قبل أوانها، ويقطع الطريق على فرص صعود غانتس، إلى منصب رئيس الوزراء رسميا، حسب اتفاق التقاسم، وعلى أمل أن يكسب نتنياهو أرضا انتخابية جديدة، يصادر بها احتمالات إدانته في محاكمات الفساد المقرر استئنافها أوائل العام المقبل، وهو ما قد يعني أن نتنياهو محاط بوضع داخلى مضطرب، قد لا يكون مفيدا معه، أن يخوض حربا ضد «حزب الله»، لا تبدو نتائجها محسومة لصالح كيان الاحتلال.
 
قد لا يريد حزب الله وإسرائيل حربا قريبة شاملة، وإن كان ذلك لا يمنع وقوعها، فالأعصاب مشدودة، والأصابع على الزناد
 
ثم إن «حزب الله» هو الآخر، يمرّ بأوضاع سياسية لا تبدو مواتية، مع تفاقم التدهور المعيشي في لبنان، وتشديد الحصار الأمريكي والخليجي، وتصاعد موجة الاتهامات لحزب الله بالتسبب في أزمة لبنان، وهو ما قد يلزم الحزب بالركون إلى الهدوء، وعدم المبادرة إلى حرب مع العدو في المدى المنظور، وعلى نحو ما عبرعنه الشيخ نعيم قاسم نائب الأمين العام للحزب قبل أيام، قال الشيخ إننا ـ أي حزب الله ـ لن «نستدرج إلى حرب»، وإنه لا يتوقع حربا في الشهور المقبلة، إضافة لموقف إيران الداعم الوحيد لحزب الله، وهو ما لم يذكره الشيخ قاسم طبعا، فطهران لا تبدو متحمسة لحرب قريبة، وتفضل انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وأملها لا يخفى في إمكانية سقوط ترامب، وفوز جو بايدن الديمقراطي، الذي قد يمكن التفاهم معه على شروط لتخفيف الحصار الأمريكي الضاغط بقسوة على إيران.
وقد لا يريد الطرفان بالفعل حربا قريبة شاملة، وإن كان ذلك لا يمنع وقوعها، فالأعصاب مشدودة، والأصابع على الزناد، وإمكانيات التحكم في اللكمات والضربات المتبادلة، لا تبدو مؤكدة الأثر، ولا تضمن عدم الانزلاق إلى حرب واسعة، حتى لو حرص الطرفان على تأجيل مواقيت اشتعالها، خصوصا أن الخطط جاهزة من زمن، والاستعدادات والتدريبات والمناورات توالت، فليس بوسع كيان الاحتلال أن يتعايش طويلا مع خطر بحجم «حزب الله»، وهو أكبر خطر وجودي يتهدده على الجبهة الشمالية، ثم إن خطرا آخر يضاف من منظور إسرائيلي، هو الوجود العسكري الإيراني المتزايد في سوريا، الذي صار مقننا باتفاق عسكري بين طهران وحكومة بشار الأسد في دمشق، وما تخشاه إسرائيل ليس مصير سوريا بالطبع، بل تخشى من سعى طهران لإيجاد كيان يشبه «حزب الله» اللبناني في سوريا المحطمة، وبانخراط كوادر «حزب الله» نفسه في التحضير لأعمال قتالية على جبهة الجولان المحتل، وهكذا يصبح الخطر مضاعفا، على نحو تريده إيران لكسب ورقة ضغط جديدة باسم المقاومة، بينما إسرائيل تريد إطلاق يدها العسكرية بلا عوائق، وهو ما يفسر سياسة إسرائيل المعلنة، التي يتفاخر بها نتنياهو، وينافسه فيها الجنرال غانتس، وعنوانها الحيلولة دون تمكين إيران من التموضع وبناء قواعد مستقرة في سوريا، بشن ضربات جوية وصاروخية متتابعة ومنتظمة، قد لا تعلن إسرائيل مسؤوليتها عنها، لكنها لا تنفي أبدا، تماما كما لم تنف ما قيل عن تورطها في تفجير منشآت نووية حساسة داخل إيران نفسها، فإسرائيل تريد إضفاء قدر من الغموض على عملياتها لردع إيران، يفيدها أيضا في إدامة التواصل مع روسيا، التي يفترض أنها حليفة لإيران رسميا، لكن موسكو لا تريد للنفوذ الإيراني أن يتخطى حدودا بعينها في سوريا، وتتحكم في تشغيل معدات الدفاع الجوي المتقدمة في سوريا، ولا تطلق طاقاتها إلا في ظروف وحدود معينة، تبقى لروسيا فرصة الوساطة الضمنية بين طهران وتل أبيب، وهي الوساطة الممتدة بالطبيعة إلى قيادة «حزب الله»، بهدف تحجيم ردود الحزب، في سياق معادلة الردع الرمزي، وهو ما لم تخفه الدوائر الإسرائيلية في الأيام الأخيرة، التي شهدت أيضا، وتحديدا في 25 يوليو 2020، اجتماعا استثنائيا لم يتكرر منذ عام 2012، جمع رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة مع قيادة جيش الاحتلال وأجهزة المخابرات، لم يذع عنه غير كلام عمومي فضفاض، يتحدث عن التحديات والمخاطر الأمنية في المنطقة، وقد لا يحتاج أحد إلى كثير من الفطنة، ليدرك أن الموضوع الإيراني كان في قلب التباحث والتدقيق والتقرير، وأنه جرى الاتفاق غالبا على هوامش حركة إسرائيل ضد إيران وجماعاتها، وبأولويات إسرائيلية لا تحتمل انتظارا طويلا، فقد لا تمانع واشنطن في إطلاق يد إسرائيل، ودعم عملياتها لزعزعة النفوذ الإيراني، وإلى حدود قد تصل لشن حرب ضد «حزب الله»، تكمل بها الجهد الأمريكي الجاري لاعتصار لبنان، و»خض ورج» كل تعاطف تبقى مع سلاح «حزب الله»، والأخير هو أقوى ذراع وحليف لإيران، التي لم يسقط الضغط والخنق الاقتصادي الأمريكي نظامها، ولا جعل سقوطه قريبا وشيكا، كما تشتهي واشنطن، بل دفعه إلى تصرف صادم للخطط الأمريكية، مع قرب إتمام اتفاق إيراني هو الأضخم والأخطر من نوعه مع الصين، تتعهد فيه بكين بتقديم استثمارات لإيران تبلغ 400 مليار دولار عبر 25 سنة مقبلة، في مجالات البنية التحتية والطرق والموانئ والقطارات والاتصالات والتكنولوجيا، مقابل احتكار صيني شبه تام لموارد إيران الهائلة من البترول والغاز الطبيعي، وبأسعار ميسرة، وبتبادل تجاري كبير، لا يتم بالدولار ولا باليورو، بل بالعملتين المحليتين للصين وإيران، مع توقع دخول روسيا كطرف ثالث في الاتفاق، والتعهد بتوريد أسلحة روسية وصينية متقدمة لإيران، مقابل إتاحة مواقع إيران وموانئها لنشاط عسكري صيني وروسي، مهدت له مناورات بحرية ثلاثية، جرت قبل شهور عند شواطئ الخليج وبحر العرب، وهو ما يعني انقلابا شاملا في موازين المنطقة، وفي الصراع العالمي الجاري المحتدم بين الصين وأمريكا، وربما لا تجد الأخيرة لردع التطور الجديد الخطير، سوى أن تلجأ للقوة الحربية بهدف إجهاضه، حتى لو ذهب ترامب وجاء بايدن إلى البيت الأبيض، فلن تقبل واشنطن بسهولة أن تضع بكين السكين على رقبتها في إيران.
وبالجملة، فقد لا نكون بصدد حروب صغيرة ومناوشات متقطعة فحسب، بل إن حوادث الحروب المحدودة ذاتها، وهي جارية ومتواترة، قد تكون تمهيدا متصلا بشرر النيران إلى حريق شامل، لا تبدو كوابحه مفيدة فعالة إلى مدى طويل، ولا تبدو رهانات التهدئة كافية لمنعه، فكل تعبئة لقتال لابد لها أن تنتهى إلى الحرب، وبالذات في بيئة دولية متحولة، يتهدد فيها ما تبقى من سيطرة أمريكا المنفردة على شؤون العالم، وبالذات في منطقتنا وما حولها، التي تحولت إلى ملاعب دماء سيالة، لا يعلو فيها صوت على أصوات الدمار الذي جرى ويجري، وبانتظار دمار أوسع مقروء في كف الأيام المقبلة.
*كاتب مصري