عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    22-May-2018

مسحراتي زمان.. في أغاني رمضان

 

الراي - أبواب - زياد عساف « يا مسحراتي دقِّلنا تحت الشباك سمعنا و افضل غنيلنا للفجر معاك واعملنا هو ليلة تلاتين ليلة حلوة جميلة أهلاً رمضان»
على صوت المذياع تعايشت أجيال مع صوت عبد المطلب وهو يردد هذه الأغنية الشهيرة حتى غدت بمثابة اعلان ثبوت رؤيا هلال شهر الصيام ، تعكس في ثناياها صوراً جميلة لأجواء ومباهج الشهر الفضيل، وأجملها الشخصية المسحِّر أو المسحراتي، لما لهذه شخصية من أهمية في مخيلة الأطفال وهم ينتظرونه بلهفة وترقب على الشبابيك والشرفات، ومع سماع صوت الإيقاع القادم من بعيد المنبعث من « الطبلة» وهو يطرق عليها بعصاة خشبية، يهرع حينها الصغار نحوه بفرح غامر، يستمعون إليه بشغف وهو يتنغم بصوته مردداً الأدعية والإبتهالات، ويبادلونه التهاني و الحكايا، ويقدمون له ما جادت به نفوس أهاليهم من طعام و حلويات، لتبقى هذه الصورة في مخيلتهم من أجمل محطات الحياة وزاداً وجدانياً لسنوات الأيام القادمة.
تراث شعبي..
مع الوقت أصبحت شخصية المسحراتي من صميم وروح التراث الشعبي، ترسخت في إحساس ووجدان الناس، ولم يتوقف دورها على البعد الديني الذي تقوم به، انما ظلت الشخصية الملهمة لدى الكثير من الفنانين فأنجزوا العديد من الأغاني و الأوبريتات الإذاعية التي أصبحت من كنوز التراث الغنائي الإذاعي، وبقدر ما تقدمه هذه الأعمال من متعة وفائدة إلا أن أهميتها أنها تعكس الواقع الإجتماعي والسياسي والثقافي للمجتمعات التي تواجدت بها ، يؤكد ذلك سعي المستشرقين الأجانب لدراسة هذه الشخصية للإطلاع على الثقافة الحقيقية لشعوب البلاد العربية، إما بدافع الإستفادة من تراثنا الغني أو على الأرجح لإكتشاف نمط التفكير السائد لدى الشعوب لتحقيق غايات استعمارية لا تخفى على الكثيرين. القيمة والأهمية التي يحظى بها المسحراتي، يرجع أساسها للبدايات عندما أوعز الرسول عليه الصلاة والسلام بهذه المهمة لبلال وابن أم مكتوم بحيث يؤذن بلال للناس وقت السحور، ويكون الإمساك بأذان ابن أم مكتوم، وفي مصر كان أول من نادى بالتسحير هو الوالي عتبة بن اسحق عام 238 هجرية، عندما وجد ان العديد من الناس لا يسيقظون على السحور، فقد كان يذهب سيراً على الأقدام من مدينة العسكر الى جامع عمرو بن العاص بالفسطاط، ويذكر المؤرخون ان استخدام المسحراتي للطبلة بدأ في مصر لتصبح ظاهرة عامة في البلاد العربية والإسلامية فيما بعد. الشيخ رمضان..
الموسيقار والمطرب محمد فوزي كان أول من قدم المسحراتي بالإذاعة المصرية في أواسط خمسينيات القرن الماضي من كلمات بيرم التونسي، وعلى ايقاع الطبل ومشاركة كورال نسائي وهو يغني للناس يحثهم على الإستيقاظ للسحور:
يا عباد االله.. وحدوا االله..أنا امدح المولى الغفور الودود.. اللي تجلت رحمته في الوجود.. الأرض والسما عليَّ شهود.
تبعه بعد ذلك العديد من المطربين والمطربات وقدموا أغنيات وصوراً اذاعية معظمها تحمل عنوان المسحراتي ومنهم: ابراهيم حمودة، سيد مصطفى، عباس البليدي، عبده سروجي، محمد عبد المطلب، كارم محمود، محمد رشدي، محمد قنديل، سيد اسماعيل ومحمد العزبي.
مجموعة من الفنانين قاموا أيضاً بتأدية دور المسحراتي بأسلوب غنائي جميل، وكان شكوكو أول من قدم شخصية المسحراتي على الشاشة الصغيرة عام 1961 وعلى مدار ثلاثين ليلة، وكانت تبث بعد الساعة الثانية عشرة ليلاً، اسماعيل ياسين قدم في التلفزيون المصري اسكتش المسحراتي بدور الشيخ رمضان، وشاركه الغناء مجموعة من الأطفال من بينهم هاني شاكر وهو بمرحلة الطفولة ورددوا معه ككورس: ياالله بينا ياالله ويا الشيخ رمضان.. حيغني على الطبلة ويصحِّي النعسان.
الفنان محمد فوزي عاد وقدم للإذاعة في شهر رمضان بداية الستينيات البرنامج الغنائي- مسحراتي في شارع النجوم ، مؤدياً دور المسحِّر وهو يطوف على بيوت الفنانين ليوقظهم للسحور وهو يضرب على الطبل بإيقاع منتظم وسلس، ومخصصاً لكل منهم فقرة غنائية تعكس شخصية وروح الفنان ومنهم هند رستم و عبد الحليم حافظ وام كلثوم ومحمد عبد الوهاب، ومن ضمن هذه الحلقات وقف مغنياً على باب بيت سعاد حسني ليحثها على الإستيقاظ للسحور:
«قومي يا كتكوتة يا شاطرة.. واتسحري معانا.. ولو اني عارفك فاطرة.. يانا دمك خفيف
و بيأسرني.. والنظرات منك تسحرني.. وانا تفطرني النظرات.. واسرح وعقلي يحيرني..
ويقوللي في كل الأوقات.. دي تحفة ولا سعاد حسني.
اصحى يا نايم..
في السنوات الأخيرة قدم الفنان سيد زيان برنامج - نجاتي المسحراتي - ضمن حلقات غنائية وعلى مدار شهر رمضان، وتدور حول المسحراتي الذي يعمل في مهنة أخرى بالنهار، ويسلط الضوء على هذه المهنة ويحث أصحابها و على طريقة المسحِّر على الأخلاق والأمانة ومراعاة ظروف الناس.
الفنانة اللبنانية هيام يونس شاركت وهي طفلة بالفيلم المصري -قلبي على ولدي - 1953 مع شقيقتها الكبرى نزهة يونس و شكري سرحان و زكي رستم وكمال الشناوي، قدمت بالفيلم فقرة غنائية وهي تقوم بدور المسحراتي في مشهد داخل حي شعبي وغنت يرافقها مجموعة من الأطفال: اصحى يا نايم صح النوم.. احنا بقينا في شهر الصوم.
من سوريا ظهر الفنان الشعبي ابو صياح بشخصية المسحراتي مع أداء غنائي أيضاً في مسلسل فاعل خير أو - مسحر رمضان - عام 1967 ،من انتاج التلفزيون الأردني في اوائل السبعينات وفي مشهد غنائي ضمن أحداث الجزء الثاني من مسلسل صح النوم ، تطوع هذه المرة الفنان السوري دريد لحام لهذه المهمة وقام بدور المسحِّر يرافقه بالغناء والعزف ناجي جبر الشهير بشخصية ابو عنتر والفنانة صباح جزائري، وكان اللحن و الكلمات لهذه الأغنية مستوحاة من صميم التراث الشعبي السوري ومن كلماتها:
قوموا ياللي نويتو تصومو.. راح الوقت عليكم اصحوا.. االله مع الصاحي يا نيام.
في مدينة عمان وفي أواخر رمضان ظلت الناس تلاحظ حالة الشجن والحزن في صوت المسحِّر وهو ينغِّم و يغني بصوته بما يعرف «التواحيش» أي بمعنى الوحشة و الحزن على فراق الشهر الفضيل في أيامه الأخيرة وهو يردد:
لا أوحش االله منك يا رمضان.. لا أوحش االله منك يا شهر الخير.. يا شهر التسابيح.
وكما درجت العادة وقبل أيام قليلة من انقضاء الشهر، كان المسحراتي يطوف على البيوت لأخذ العيدية من الناس نظير تعبه و سهره طيلة الشهر لتوليه مهمة إيقاظهم فترة السحور ، ولا ينسى الكثيرون كيف أن العائلات المسيحية كانت تبادر بدفع العيدية للمسحر ما يدِّل على حالة التاّخي و المحبة بين الناس بغض النظر عن الدين أو الطائفة.
للرجال فقط..
يا ترى كيف يكون رد فعل الناس لو استيقظوا يوماً على صوت طبلة المسحر ليكتشفوا ان المسحراتي امرأة !، ستكون أشبه بالصدمة ولا شك، الا ان الكثيرين غاب عن ذهنهم ان هذه المهنة لم تكن حكراً على الذكور قبل مئات السنين على عكس ما يحصل الاّن، حدث ذلك في عهد احمد بن طولون في مصر و كان من أول شروط قبول المرأة في هذه المهنة ان تكون صاحبة صوت جميل. ما كان هذا ليحدث بطبيعة الحال لولا حالة الاّمان في الطرقات اّنذاك، ما سهل على المرأة السير في ساعة متأخرة من الليل.
في مصر مؤخراً قامت السيدة دلال عبد القادر بمهنة المسحراتية لحي المعادي لتحل مكان أخيها المتوفي الذي كان يعمل في هذه المهنة، تطوعت دلال لهذه المهمة إحياءً لذكراه، وفي تركيا بالاّونة الأخيرة قامت احدى البلديات بمحافظة انتاليا بتدريب خمس فتيات على هذه المهنة التي تتطلب التجول في ساعة متأخرة من ليالي رمضان ، بهدف تعويد الفتيات على عدم الخوف وإثبات أن المرأة قادرة على المشاركة في شتى المجالات، وفي الوقت نفسه التأكيد على ان تركيا تساوي بين الرجل و المرأة.
على صعيد الفن لم تكن هذه المهمة صعبة وجسدتها الفنانة المونولوجيست ثريا حلمي حسب ما ورد في مجلة الكواكب عدد 10 ابريل 1956 مع صورة لها وهي تطوف على بيوت صديقاتها في شارع الفن ، تغني لهن بكلمات كتبها لها الشاعر الغنائي عبد العزيز سلام:
«م الصبح بالطبلة بطبَّل
إصحى يا نعسان قوم اتسحَّر
نومك تقيل و لا بتعمل
أطرش رمضان علشان تفطر».
حكواتي..
يعتبر المسحراتي شخصية ثرية تستوجب البحث في ملامحها وتفاصيلها وأسلوبها باعتبارها مرجعاً حقيقياً للباحثين والمفكرين ودراسة التراث العربي، من أول ملامح هذه الشخصية تحقيقها لحالة التوأمة مع الراوي أو الحكواتي، ومن الأمثلة على ذلك أغنية المسحراتي للفنان احمد عبد القادر وهو يروي بصوته تفاصيل معركة بدر بأسلوب الحكواتي. تعكس هذه الشخصية أيضاً الحميمية والترابط بين الناس فهو على الأغلب من سكان الحي وتربطه بهم علاقات اجتماعية لدرجة أن المسحِّر يوقظ الناس بأسمائهم، نلمس ذلك مع الفنان محمد عبد المطلب عندما قام بهذه المهمة و أخذ يناديهم بالإسم: اصحى يا عم عبد العال، يا خليل، يابومنصور، يابو العينين، يا جلال، يا غريب، ياحج سرور، قوموا اسجدوا الله، وسبحوا االله، وعلى نفس المنوال أدى المطرب ابراهيم حمودة هذه الشخصية وهو يخاطب السكان بأسمائهم - يا ست خدوجة.. يا ست البنات.. يا شمعة بتنور.. وحدوا االله.. اذكروا االله.
تسليط الضوء على شخصية المسحراتي تأخذنا لما هو أبعد من المهمة التقليدية المكلف بها، وإنما اعتباره أشبه بالبطل الشعبي و هذا ما وظفه الكتَّاب والفنانون في أعمالهم، ولا تقتصر مهمته إيقاظ الناس لتناول الطعام وإنما يدعو هم للإستيقاظ من غفلتهم وحثهم على النهضة بالمعنى الأشمل والأعم على الصعيد الإجتماعي والسياسي والثقافي، مستخدماً الحكمة و الموعظة والدعوة للمقاومة والنهوض.
مكاوي وحداد
وهذا ماينطبق على تجربة الفنان سيد مكاوي والشاعر فؤاد حداد اللذين قدما معاً الملحمة الشعبية-المسحراتي- وتم تسجيلها بالإذاعة بدءاً من عام 1964 ، وتم تصويرها لاحقاً في استوديوهات التلفزيون المصري، وبذكاء محكم وظف مكاوي مع مخرج العمل هذه الفكرة، خاصة بتوظيفه للقنديل الذي تحمله الفتاة المرافقة للشيخ سيد والقنديل يرمز هنا للوعي و النور في مواجهة الظلام، وظهور سيد مكاوي بلباس رجال الدين البسيط تعبيراً عن الطهر و الحكمة التي تعكس عمق التجربة لدى المسحراتي ، حاول الموسيقار عمار الشريعي إعادة هذه التجربة إلا أنه لم يوفق بها ، وظلت تجربة مكاوي و حداد هي الأهم و الأفضل، خاصة في الحلقات التي توافقت مع فترة حرب الإستنزاف في مصر، وشعرا يومها بتحملهما المسؤولية ووظفا ذلك من خلال هذا البرنامج بدعوة الناس للنهوض والعمل وتسليط الضوء على العيوب الإجتماعية ومحاربة أوجه الفساد، ومن أهم هذه الحلقات عندما تغنى مكاوي من اشعار حداد بالقدس وهو يطوف مغنياً بحواري القاهرة:
«يا قدس يا سبحة الشقا
الأعمى في سجدتك رأى
والفجر من صخرتك سقى
يا قدس تتفجر الجراح
والصبر حرب و أيوب صلاح
يا أخت من مكة و البطاح
قلبي انضرب للعرب و صاح
لا بد من فتح في الصباح ».