عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    31-Jul-2020

الثورات الإعلامية… وثورات المجتمع - رياض معسعس

 

القدس العربي - في البدء كانت الصورة. الصورة لغة التعبير الأولى لإنسان الكهوف. وهذا ما أكدته كل الاكتشافات في الكهوف القديمة التي كانت مأوى له، وجدرانها مساحات مفتوحة يروي على صفحتها مشاهد صيده، أو يعبر عن مآسيه ومخاوفه (كهوف لاسكو في فرنسا، وتميرا في أسبانيا ويعود تاريخا إلى 30 ألف سنة ق.م).
هذه اللغة البدائية التي تطورت فيما بعد لتصبح «اللغة التصويرية» فإذا أراد الراوي أن يقول ملكا مثلا رسم تاجا، أو حصانا رسم رأس الحصان، وهكذا.. والتي تشبه إلى حد بعيد الهيروغليفية في عهد الفراعنة مع بعض الرموز الذي يتفق على معناها مسبقا كالشمس مثلا والتي تعبر عن الإله رع، أو الصليب كمفتاح الحياة..
 
الثورة الأولى: اللغة
 
كان تطور اللغة أمرا محتوما ذلك أن صعوبة الكتابة، واقتصار قراءتها على مجموعة قليلة من الناس جعل تداولها محصورا في الكهنة وحاشيات القصور، وجاء التطور اللغوي على يد الأوغاريتيين في أوغاريت في شمال سوريا عندما اخترعوا اللغة المسمارية والتي تطورت لاختراع الأبجدية التي تتألف من ثلاثين حرفا وكل حرف يمثل صوتا،
(أبجدية رأس شمرا) والأهم من ذلك هو الجمع بين الحرف والحرف ليعطي كلمة أي يعطي معنى.
هذه الثورة كانت بمثابة ثورة اجتماعية كبيرة ذلك أن هذه اللغة باتت في متناول عدد كبير من الناس وانتشرت المعرفة في منطقة الهلال الخصيب الذي بات أكثر البلاد تقدما في ذاك العصر، وباتت الكتابة أسهل وتعلمها أيضا فكانت ثورة ثقافية بكل معنى الكلمة والتي كان لها أكبر الأثر على المستوى العالمي.
وجعل اليونانيين والفرس يتطلعون إلى السيطرة عليها. فكانوا يطلقون على سكان الساحل السوري من أنطاكية وحتى غزة « الفينيقيين» وليس فقط على الساحل اللبناني) أي الشعب الأحمر (ذلك أن سكان المنطقة كانت ألبستهم تصبغ باللون الأحمر أو الأرجواني كما نرى اليوم مثلا في الخليج اللباس الأبيض).
وقد استفادوا من التقدم الحضاري بالاحتكاك معهم والذي انتهى بسيطرتهم على البلاد بعد حملات إسكندر المقدوني.
 
الثورة الثانية: الطباعة
 
مع تطور اللغات الأبجدية وتنوعها ومنها بالطبع العربية وليدة اللغات السامية وأكثرها انتشارا. أصبح التواصل بين أفراد المجتمع، وبين الشعوب أكثر اتساعا، وانتشرت المدارس لتعلمها وتداولها في الشؤون الإدارية والتجارية والتعليمية، لكن الكتابة بقيت مخطوطات يقوم على نسخها النساخون، وكانت أوروبا بعد الحروب الصليبية والعصور الوسطى بدأت تدخل رويدا في عصر النهضة. في منتصف القرن الخامس عشر قام الألماني يوهان غوتنبرغ باختراع المطبعة، أي الحرف المتحرك.
(حروف تصب في قوالب معدنية) ويتم تنضيدها حسب النص المطلوب، ثم تبدأ عملية الطبع (بدل النسخ)، وهذا يعني صار بالإمكان طبع آلاف النسخ من نفس النص بمدة زمنية قصيرة، وبحروف واضحة دون الوقوع في أخطاء النساخين وعدم إمكانية قراءة بعض الخطوط.
هذه المطبعة رغم بدائيتها أحدثت ثورة كبيرة في عالم نشر المعرفة عبر طباعة الكتب بكميات كبيرة فباتت بمتناول الطبقات الشعبية الفقيرة التي بدأت بفضل تدرجها في معارج المعرفة والعلم أن ترتفع في طبقات المجتمع، وتشكيل ما يسمى اليوم بالطبقة الوسطى العريضة.
وبالطبع كانت ثورة كبيرة أيضا على جميع الأصعدة العلمية والاقتصادية والتجارية. لكن لم تخل من انتقادات وتهجم النساخين ورجال الدين الذين دانوا الآلة الجديدة معتبرين أن طباعة الكتب المقدسة بها محرم ويغضب الذات الإلهية. (وهذا أيضا ما واجهته مطبعة نابليون في مصر التي تحولت فيما بعد إلى مطبعة بولاق). وكان أول وليد لهذه المطبعة الذي أصبح في متناول كل يد: الصحيفة.
 
الثورة الثالثة: الراديو والأقمار الصناعية
 
مع تطور العلوم والمجتمعات والدخول في الثورات الصناعية في أوروبا، كان التطور أيضا يشمل وسائل الاتصال فتم اختراع الراديو، ثم التلفزيون في النصف الأول من القرن العشرين. لكن الثورة الحقيقية التي تحققت في ستينيات القرن الماضي وهي تقنية الأقمار الصناعية، والحاسوب والتزاوج بينهما والتي حققت حلم كاتب الخيال العلمي الشهير آرثر كلارك بتغطية إخبارية على كامل الكرة الأرضية بإرسال ثلاثة أقمار اصطناعية على المدار الثابت (على مسافة 36500 كم) من الأرض موجه كل منها على ثلث الكرة الأرضية.
وهذا ما تم فعليا وباتت الألعاب الأولمبية، وكأس كرة القدم، والأحداث الكبرى يمكن مشاهدتها آنيا من قبل عدة مليارات من البشر حول العالم. هذه التقنية الجديدة كانت ثورة كبيرة في عالم الاتصال، وعلى مستوى المجتمع والتي جعلت من الكرة الأرضية قرية صغيرة كما وصفها العالم الكندي ماك لوهان.
 
الثورة الرابعة: الانترنت
 
الثورة الأخيرة في عالم الإعلام والاتصال (ولن تكون الأخيرة) هي اختراع الانترنت من قبل (فينتون سيرف، وبوب خان) هذا الاختراع الذي ظهر إلى الوجود في بداية تسعينيات القرن الماضي قلب المفاهيم الإعلامية، وأحدث ثورة كبيرة جعلت مستقبل (المستهلك) الأمس يصبح مرسل اليوم (منتجا) فمن نتائجها نشوء محركات البحث، وتطبيقات عديدة لوسائل التواصل الاجتماعي التي شكلت بدورها ما أصطلح على تسميته بالإعلام الأفقي، أي بين أفراد المجتمع، وباتت هذه الوسائل سلطة إعلامية جديدة في مواجهة السلطة الإعلامية القديمة، بل إنها حرضت المجتمعات على الثورات (الربيع العربي). والدعوة لتشكيل مجموعات ضغط سياسي واجتماعي.
وبعودة زمنية للوراء نرى أن ما حققه الإنسان خلال ثلاثين ألف عام من التطور الإعلامي لا يساوي ما تم تحقيقه خلال القرن العشرين (وبداية الواحد والعشرين) الذي يعتبر قرن الثورة الإعلامية الكبرى دون منازع. والبقية تأتي.
 
كاتب سوري