الدستور-إبراهيم خليل
(ما قالت الريح لليل) هو الديوان الرابع للعراقية لهيب عبد الخالق بعد دواوينها « انكساراتٌ لطفولة غصن « 1987 والثاني « وطنٌ وخبزٌ وجسد « الذي صدر عن دار الشؤون الثقافية ببغداد 1999. وترانيم سومرية 2014 عن الأهلية بعمان. وهذا هو الرابع(الأهلية، عمان، 2024) وأجواؤه كأجواء ترانيم لذا لا مناص من الجمع بين الديوانين في هذا التناول. ففي إحدى قصائدها الموسومة بعنوانٍ طريفٍ، هو « بلا كفٍّ « تعبر عن هموم الإنسان العراقي في ظل الحرب الغاشمة التي تشنُّها قوىً مجرمةٌ لتحقيق مآربَ، وأجنداتٍ معيَّنة، فيكون الشعب العراقي، كغير العراقي، ضحايا لأولئك السفّاحين الذين مُنيَ العالمُ – للأسف – بهم. فالذين تقسو عليهم الحروب، بما تجرُّه من كوارثَ، وويلاتٍ، ودمار، وخراب، يبحثون عن ملاذٍ لهم، في الغرب، أو في الشرق، فكلّ ما يطمحون إليه ويسعَوْن هو المكان الآمن الذي يقيهم القصفَ في زمن أعادونا فيه إلى عصر رعاة البقر، وغزو الهكْسوس، وهجماتِ المغولِ والتتار، واجتياح هتلر لباريس:
أدْركنا كيف نهاجِرُ أسرابًا وفرادى
فنيمِّمُ شطر الغربِ، وأحفاد البقر الوحشيّ،
وبرَعْنا في وصفِ بطولاتِ الهكسوس،
ونازيَّة هتلر،
ثم رقصنا في أقفاص السيرك الأبيض،
رقْصَ المذبوحِ
ولكن، لم نتعلم فنَّ العزفَ
بلا كفّ (ترانيم: ص17)
فالحروبُ، إن كان الذين يشعلونها هم رُعاةُ البقر، أو هم مدمنو الفودكا، فالنتيجةُ واحدةٌ. وهي تدميرُ الحضارة، وطمْسُ معالم الفنون، وتغييب المواهب. فمن يفتقر لليد، والأصابع، لنْ يُتقن العزفَ على البيانو، أو أيّ آلة موسيقيَّةٍ أخرى. إذ لا يمكنُنا أن ننتَظر منه معزوفة جديدة تشنّف الآذان ، فتطرب البهيج منا والأسيان.
الرعب في صورة:
وفي قصيدةٍ أخرى لا تكتفي بالبكاء على الراحلين في الحرب؛ من صغار الأطفال، وكبار العَجَزَة، ومن مدنيّين، ومسالمين، إلى مقاتلين محاربين، ومن شبّان يافعين، إلى شيوخ عاجزين، فإلى من ضاقت عليهم الحياة بما رحبت، فلم يجدوا طريقا للنجاة. فالشاعرة لهيب عبد الخالق- في هذه القصيدة - ترسمُ صورةً مرعبةً للحرب: الغبار، وطوْق النجاة، وبحر الدماء، والألوان التي تختفي فلا يبقى منها إلا لونُ الدَمِ الذي يلطّخ كلَّ شيء: الثوب، والنرجس، والدروب، وحتى الصوتُ الذي لا لونَ لهُ، ولا صَبغةً، يغدو في زمَنِ الحرب قانيًا داميًا، والقتيل- في هذه الدوامة - لا يعرفُ نفسه، إن كان قاتلا، أو قتيلا:
الموتُ حولي
غير أني لا أراه
يضبِّب الآتي بلا صوتٍ
بلا شكلٍ
بلا وجْهٍ
وأخرجُ من براثنه
قتيلا أم مقاتل
أغتالُ ذاكرتي
لكيْ أمضي على درْبِ القوافل (ترانيم:21)
فمعَ هذه الحروب، التي تندلعُ، بلا سببٍ في كل مكان، ومع هذه الآلاتِ المدمِّرة، التي تقتل المئات بقنبلة واحدة، وتدمِّرُ بلدة كبيرة بقذيفة واحدة، لا أكثر، يختلفُ إنسان هذا العصر عمَّن عاشوا في عصور أخرى لم تكن تعرف مثل هذه الأسْلحة الفتاكة، ولا القادة المدمنين. من أجل ذلك يفتقر إنساننا اليوم للمشاعر الطبيعية النقيَّة، والإحساس بالثِقَة بالعودَةِ إلى مأواهُ سالمًا، معافى، إنْ هو غادره إلى عمله، أو لأيّ غرض آخر. ها هو المتكلِّمُ في قصيدة لهيب الموسومة بعنوان (غربة) يتألم؛ لأنه لا يرى بصيص أمل، أو بارقة رجاء. فكلُّ الأشياء من حوله؛ إما حرائقُ، أو خرائبُ، أو غيومٌ حُمْرٌ، لا ترسِلُ مطرًا كالذي أنشدَ له السياب أنشودته المشهورة، بل مطرًا ساحقا، لا خيرَ فيه، ولا غوْث، إلا من دمار هذا الإنسان الذي كُتب عليه أنْ يحيا في هذا الأوان:
أسيرُ فوق الجمر
تسْفَعُني الخرائب
والحروبُ
وأرتجي من غيمة تصطادني
مَطرًا
ولكنَّ الغيومَ الحُمْر
لا تروي (ترانيم: ص26)
ما قالت الريح لليل (2024):
فالمطرُ الذي تهمي به هذه الغيومُ، وتجودُ، رمادٌ، لا تورقُ منه إلا الخطايا، ولا ينتشر في الفضاء بسببه إلا الضباب، والقتلة، الذين ينتفخون كِبرًا كالطواويس، ظنًا منهم أنهم بهذه الجرائم البشعة يُحسبون شجعانا بواسل، وقادَةً أفاضِل، لا يفرّقون بين طفلٍ وجرو. ولا بين رغيف الخبز، والتراب. ولا بين شدق القبر المفتوح والجرح النازف. ها هي تنشدُ، وهي في هاليفاكس، بكندا تقيم لاجئةً، بعيدةً عن وطنها الحبيب، فلا تشمُّ للمطر الرائحة التي يشمُّها من هو في الوطن، أيْ رائحة الترابِ غَبَّ المطر:
قهْوتي ليْستْ كما أهوى
ونافذتي
تقارع رقْصةِ المطرِ
الذي يَهْمي
وليسَ سِوى
جريدِ الذكرياتِ
سفينةٌ غرْقى
ونايٌ ضاعَ في الترحال صوْتُهْ (ما قالت الريح: ص 26)
فالنزوح، واللجوء، والبعدُ عن الوطن، من قبيل النفي الذي يلِحُّ على الشاعرة لتتذكر ما جرى، وما يجري. فهي، كغيرها من العراقيين الذين ابتُلوا بعصابة رعاة البقر ذات يوم من العام 2003 ، يتقاذفُهم القدر من مكانٍ لآخر، كأنهم أوراقٌ تُبَعْثرُها الريح ذات عاصفةٍ شديدةٍ من عواصفِ هذا الزمَن الرديء:
من دربٍ إلى دربِ
ومن قفر إلى قفر
ومن برْدٍ إلى بردِ
ومن جوع إلى خوفِ
ندورُ كما تدور مياهنا
نسلًا كبا دهرًا
وطوَّف في شراع الريحِ
أوراقا بلا وَطَنِ.. (ما قالت الريح: ص 41)
فالشاعرةُ، بعيدًا عن الوطن، كغيرها من العراقيين، تشعر باللاتشيُّؤ، فالعُمْر يمضي، وهم يحسون بأن الوطن يفلِتُ من بين الأصابع، الوطنُ النَخيلُ، النهرُ، الفخرُ، الظلال، النرجِسُ، الغُصون المشرعة للريح، كل هذا يمضي كما العُمْر، وكأنه يغدو ذكرى، ولا شيءَ آخر:
يتسرَّب مني العمرُ
وأنتَ بعيدٌ عني
يا وطنَ النرْجس، والنَخْل النافر
من قلب الفَخْر
لو أنَّ الريح تهبّ وتحمِلُ أوراقي لظلالك
كنتُ تركتُ غُصوني مُشْرعةً
ورضيْتُ بأنْ أغدو
ذكرى. (ما قالت الريح: ص18)
ولهيب، في (ترانيم سومرية) لا تفتأ تشيرُ لويلاتِ الحروب، وما يعْقُبها من نوازلَ، وكوارثَ، تصيبُ الحرث والنسل، والمكانَ والزمان. فالمتكلّمةُ في قصيدة « على شاطئ الباسفيك « تنظرُ حولها فلا تجد أحدًا. لا الأب، ولا الأخ، ولا القرينَ، إذْ لم تُبْقِ لعبةُ الحرْبِ منهم أحدًا:
كل الذين أكنُّ
أمي، أمْ أخي، أم قريني
على ساتر أبيض كالنهار، استكانوا
لإطلاقةٍ، أو صواريخَ،
أو زمن لا يجيد سوى لُعبة القتلِ،
كل الذين أخبئهم في عروقي
قوافلُ موتى،
وأعجازُ نخلٍ،
طواهُ النَوى (ترانيم: ص32)
واللافتُ للنظر، الجاذبُ للانتباه، أنَّ الشاعرة في واحدةٍ من القصائد، تستنطق الشهداءَ والقتلى من العراقيّين. فهي تتخيّل من يروي لنا بعض ما لقيه في حياته من متاعب قبل أن تمرَّ الحرْب على جثَّتهِ، وقد سئم العراقيون من تعدادِ الجرحى، وإحصاءِ المصابين، وتصاعُدِ أرقام الشهداء، بين ليلةٍ وأخرى، وتشقُّق لون السماء الأزرق ليفترَّ عن دُخان قاتم ينْهَمِر فوق دجلة الخير - على رأي الجواهري – الذي دجَّجَتْه القذائف:
لنا في الغيوب شواهد.
غيرَ التي ترزأ الحربُ
فوق الحياض
وبرْق السنين
نعدُّ على الرَمْل أشلاءَنا
والرَزايا
تهيءُ من دمِنا
سرْبَ موتٍ جديد (ترانيم: ص39)
لوعَةُ الفراق:
ويتكـرَّر هذا في قصائد أخرى تِكرارًا يحملُنا على القول: إنّ « ترانيم سومرية « بقدر ما هي ترانيم مراثٍ، وبكائيات، ومواجع، تروي في شعر موزون، غير خِلْوٍ من القوافي، تضحياتِ العراقيين، والعراقيات، الذين واجهوا - على الدوام - حروب الفُرْس، والمغول، والتتار، قديمًا، وفي الزمن الحاضر، فحتى أحلامُهم تحوّلت إلى كوابيس. فالمقاتل، بدلا من أن يحلم بنزهة بين النخيل يسمع فيها تغريد الطيور، وتغريد العصافير، وتراقص الفراشات بأجنحتها الملونة، البراقة، الزاهية، نراه يحلم بعشٍّ من أغلِفَة الرصاص لقبَّرة ليْسَتْ كقبرة شيللي Shelley في قصيدته الرومانسية المشهورة إلى قبرة To a Skylark بل لقبَّرةٍ ثكلى:
أبني عُشّا من بعض رصاصاتي
للقبَّرة الثكلى
أستلّ صباحًا من جُرحي
لمساءٍ دامِسْ (ترانيم: ص47)
فأحلامُ هذا المحارب كوابيس، وجراح، ودخان، وأصابعُ من حجر، ودموعٌ لا ترقأ، ولا تجفُّ، وخمرَةُ حربٍ تشعل في الجسد حريقا يتراقصُ اللهَبُ المتصاعد منه في الخاصرة. وهذه صورَةٌ مفزعة للحرب، والمحارب، لا نجدها إلا في قصائد لهيب. وتزداد وضوحًا وقسوةً إذا وُوزِنَت بصورةٍ أخرى تُعنى بها الشاعرة، وهي صورَةُ القاتل الذي لا فرق لديه بين قتل الإنسان، وقتل الحشَرَة، وقتل شخص واحدٍ، أو الشعب كله، إذا أراد، أو الناس جميعًا. فهو لا يفتأ مقعيًا كجرذ يراقبُ الحرْبَ على شاشات التلفزة، أو الحاسوب، وكأنه طفل بريءٌ يلهو بإحدى الألعاب الإلكترونية، فيما أطفال العراقيين لا يحلُمونَ بغير المنفى:
وأطفالنا في الشوارعِ
نبتٌ غريب يسائل عن لغةٍ
لم تعد كاللغاتِ
فحلُمُ الطفولة
بعضُ خيام
وأغنية من فُتات (ترانيم: ص63)
وفي « ما قالتِ الريحُ لليل» تستعيدُ اللحظات المأساويَّة الحرجة حين غدا الأمْرُ لا مفرَّ فيه من الرحيل، فقد شاءَت الأقدارُ، بِعَبثها الذي لا يرحم، وصروفها التي لا تفتأ تتراكم، أنْ يجد العراقيون أنفسهم بين خيارين اثنين، أحْلاهما مرٌّ، وهما؛ الموتُ، أوْ الرحيل، وكأنما كانَ مكتَتَبًا لهمْ في اللوح المحفوظ» إن عذابي لشديد» على رأي الشاعر الأندلسي المفجوع، وهو يقول:
كانَ في اللوْحِ له مُكْتَتَبا
قولُـهُ: إن عــذابي لشديــــد
جلَبَ الهـمَّ لـه والوَصَبا
فهو للأشجان في همٍّ شديد
فقد تفرَّق العراقيون أيدي سبأ، فكانَ من نصيبِ الشاعرة لهيب عبد الخالق أن تغدو بلا وطن في هاليفاكس، وما أدْراك ما هاليفاكس!
لم نستطع إلا .. نُغادر
دارت الأقداحُ
حطّتْ فوق الواح الألوهةِ
أنْ نسير بلا هدىً
أن نمتطي سرج الرحيلِ
ملفَّعين بحُزننا
وشَتاتِنا
وبلا سماءٍ أو وَطن (ما قالت الريح: ص41)
ونظرًا لما يشعر به العراقي من لوعة الفراق، يعتادُهُ الحنين للعراق، وليس أدلَّ على قوّة هذا الشعور من تلك الصور التي تتراءى فيها علاقة الشاعرة الحميمة بتلك الأشياء الصغيرة التي تُذكِّرُها بالمكان، ولا سيما بالبيت الأمومي بتعبير غاستون باشلار Bachler بيت الألفة، والذكريات، والمحبَّة المشْتَهاة:
في ركنِ حديقتنا
كان الصبحُ حفيّا بالنرجس
أو بحكاياتِ الجدَّة
أو بوَجْه أبي
رقدَوا في ذاك الحِضْن سنينا
عشرًا.. عشرين.. ثمانينا
تُرى أنّى غادَرْنا وتركنا
حمْلَ الأشياءِ على قارِعَةِ البيت
ما عادَ لنا بيْت. (ما قالت الريح: ص28)
بهذهِ الروح تُفصِحُ الشاعرةُ لهيب عبد الخالق، وتعبّر، عما تختلج به أعماقُها من الألم: ألم الفراق، ولوعة الغياب عن العراق، وأجراس الشوق، والحنين إلى: عراق النخيل، والنرجس، والفرات، ودجلة، عراق المدائن؛ وعراق الكرخ، وابن زريق، وبصرة الفراهيدي، وسيبويه، وكوفة الخطّ العربي، في نسق شعري تستبدلُ النَظْم البسيط فيه بالجزالة، فالشعْرُ لديها يقول ما يقوله مباشَرَةً، بلا مُواربة، ولا غموض. فشعرها في «ما قالتِ الريحُ لليل» شعرٌ يذكرنا بصاحب «النهر الخالد» الذي أنطقه السحْرُ الحلال، والمسافرُ الذي زادُه الخيالُ، والصِبا والعِطرُ والجمالُ، فقال: - ولله درُّ مَنْ قال -
سمعتُ في شطِّكَ الجميلِ
ما قالتِ الـــريحُ للنخيلِ
يُسَبِّحُ الطـير أم يــُغَـنّـي
أمْ يشرُح الحبَّ للخميلِ
***
*النسخة المعتمدة ها هنا نسخة pdf لم يُذكر فيها تاريخ النشر، وقد اطلعت على عدد من الأخبار المنشورة حول الديوان، ومن المؤسف أن أحدًا منها لا يذكر تاريخ نشره، بما في ذلك المقالات القصيرة عن الديوان. ومن المرجح أنه صدر عام 2024 لذكر عناوين كتب صدرت للشاعرة قبل ذلك العام في نهاية الديوان.