الدستور
يتجاوز حفل إشهار كتاب عبد الرؤوف الروابدة، رئيس الوزراء الأسبق والمثقف والسياسي الأردني، أول من أمس، بعنوان «شذرات من تاريخ الأردن»، الجانب المعرفي أو العلمي المهم في الكتاب، إلى أهمية الاحتفاء بهذا الإنجاز المعرفي وتقديره ومنحه ما يستحق إعلامياً ووطنياً، وتعظيم هذه المناسبات لدى الرأي العام وفي الأوساط والنخب الثقافية والعلمية.
الروابدة ليس «رجل دولة» عادياً، بل هو استثنائي، شهد مراحل مهمة من تاريخ البلاد، وارتقى في السلك الإداري، واشتبك مع الحياة السياسية من مراحل الشباب، وخاض التجربة الحزبية على مراحل، وهو رئيس وزراء أسبق، ورئيس مجلس أعيان أسبق، لكن – وهذا هو المهم- في موازاة ذلك هو مثقف عاشق للكتب والقراءة والمعرفة، وهو من الخبراء النادرين القادرين أن يقدموا لنا رواية أردنية دقيقة وموثقة وعميقة بصورة مدهشة.
يتحدث أبو عصام (كما يحب الأردنيون أن ينادوه) عن التاريخ الأردني وتفاصيله وأحداثه وأشخاصه في مختلف المراحل، منذ تأسيس الإمارة إلى اليوم وكأنّك تشاهد ذلك أمامك وتراه بأمّ عينك، كما أنّه عالم بالعشائر والقبائل والديناميكيات الاجتماعية والسياسية الأردنية، لذلك عندما يكتب – هو- تاريخنا الأردني فإنّك تثق بأنّه من القلة المميزة القادرة على ربط الأحداث وتفسيرها وتوضيح أبعادها، من دون أن يتورط بالمنطق الدفاعي أو التبريري، في الخلاصة هو مرجع مهم في التعريف بالتاريخ الأردني وفهمه، وأتمنى أن تتنبه الجامعات الأردنية ومراكز الأفكار لأهمية هذه العملة النادرة من الشخصيات وأن يكون هنالك سمنار (حلقة بحثية) في الجامعة الأردنية مثلاً لنخبة من طلاب الدراسات العليا في التاريخ والسياسة والاجتماع تخصص لتسجيل النقاشات والحوارات مع هذا الرجل وتوثيقها وتطوير أبحاث ودراسات وتعزيز قدرات باحثين شباب بهذا المجال.
كتاب «شذرات من تاريخ الأردن» لا يصنّف ضمن الكتب الأكاديمية التقليدية، فهو كتاب شيّق رشيق، يعبر بنا في رحلة الأردن، الجغرافيا والتاريخ والهوية، منذ مراحل مبكرة من الحضارة الإنسانية، بصورة سلسة وجميلة وسهلة، إلى العصور الإسلامية بخاصة المملوكي التي شهدت اهتماماً أكبر بالأردن لموقعه الجيو استراتيجي، فالعثماني، وصولاً إلى تأسيس الإمارة ومحطات مهمة ورئيسية من تاريخ المملكة.
القيمة الرئيسية للكتاب تتمثل، برأي كاتب السطور، في أكثر من مجال أولاً هو كتاب تنويري ثقافي، كتب بلغة جميلة سلسة، يمكن أن يكون مرجعاً مهماً، للطلاب والشباب في المدارس والجامعات والأحزاب السياسية، وحتى لنسبة كبيرة من النخبة السياسية التي ليست لديها القدرة على ربط الأحداث والقصص مثلما فعل أبو عصام، وهو كتاب يمكن ترجمته إلى اللغة الإنجليزية ككتاب تثقيفي عن الأردن للباحثين والسياسيين المعنيين.
لكن ما هي الرسالة السياسية الثاوية وراء هذا الكتاب، التي أراد سياسي ومثقف مهم مثل عبد الرؤوف الروابدة أن يقولها؟!
لقد طرح أبو عصام في فصول وتفاصيل الكتاب مجموعة من الرسائل المهمة الذكية التي مررها للجميع، من دون أن تكون فجّة أو تأخذ طابعاً تبريرياً ودفاعياً؟ لن نفسد على القراء هذه المتعة في اكتشاف ذلك، لكن – بالضرورة- فإنّ سرده للتاريخ الأردني هي عملية إنصاف يستحقها هذا الوطن إزاء الحجم الكبير من محاولات التلويث والتشويه والشيطنة من قبل الروايات الأخرى، وبلا شك كان هنالك تقصير شديد من قبل النخب والمثقفين والسياسيين في توضيح تلك الحقائق!
شهدت الأعوام الأخيرة نشاطاً مميزاً ومهماً من قبل رجال دولة وسياسيين ومؤسسات وطنية في تدوين الرواية الوطنية الأردنية، وقد أشار الدكتور مهند مبيضين، رئيس مركز التوثيق الملكي، لما يقوم به المركز من جهود عظيمة في الفترات الماضية، بل منذ تأسيسه (ولا ننسى هنا دور الدكتور محمد العدوان المهم في التأسيس والتطوير)، وهي خطوات مهمة ومفيدة، لكن لا يزال هنالك جهد آخر مطلوب ومهم جداً في المجال الثقافي؛ الأدبي والروائي والدراما والمسرح والأفلام، فهذه هي الأدوات الأكثر قدرة على إيصال الرسائل للجمهور الأردني والعربي بل والغربي المستهدف، وهنالك مهمات كبيرة مطلوبة في مواجهة العمل الهائل المتراكم في تشويه صورة الأردن، ليس فقط خارجياً بل حتى داخلياً!