عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    24-Apr-2025

ثلاث رؤى لحالة العالم..!*علاء الدين أبو زينة

 الغد

نشرت مدونة «أخبار أخرى» Other News، مؤخرًا، ثلاث مقالات متعالقة تناقش حالة العالم. الأولى للمفكر المعروف جيفري ساكس، بعنوان: «ولادة نظام دولي جديد»؛ والثانية للأكاديمية الأميركية سيرلانكية الأصل أسوكا بنداراجي، بعنوان «نظام دولي جديد»؟ ترد فيه على ساكس؛ والثالثة للأكاديمي البرتغالي بوافنتورا دي سوزا سانتوس، بعنوان «الغرب ليس أعمى، لكنه لا يستطيع أن يرى»، وصفه بأنه «حوار ودي مع جيفري ساكس».
 
 
تعرض هذه المقالات الثلاث (ترجماتها العربية منشورة في «الغد»، أعداد 19 و20 و23 نيسان/ أبريل على التوالي) نقداً متعدد الأبعاد للبنية الحالية للسلطة العالمية، ويحاول كاتبوها عرض رؤى بديلة من أجل نظام عالمي أكثر عدلاً. وعلى الرغم من تباين السياقات والخلفيات الجيوسياسية والفكرية التي ينطلق منها الكُتّاب الثلاثة، فإنهم يجتمعون على نقطة مركزية واحدة: العالم يشهد اليوم نهاية مرحلة هيمنة الغرب بقيادة الولايات المتحدة، وحالة مخاض عسير لولادة نظام عالمي أكثر توازنًا وعدالةً وتعدديّة.
يشكل جيفري ساكس رؤيته لتحوّل النظام العالمي من خلال عدسة جيوبوليتيكية واقتصادية، ويشير إلى أن حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي تميّزت بهيمنة أميركية مطلقة مدعومة بالقوة العسكرية والنفوذ الاقتصادي والخطاب الأيديولوجي، شرعت في الأفول. ويرى أن أحادية القطب التي بلغت ذروتها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، تواجه الآن تحديًا متصاعدًا من قوى ناشئة، كالصين والهند وروسيا. وينتقد ساكس السياسة الخارجية الأميركية التوسعية، خاصة توسيع حلف الناتو وما أفرزه من اندلاع الحرب في أوكرانيا، ويرى في ذلك تعبيرًا عن عناد استراتيجي يفاقم صراعًا لا يخدم إلا مصالح ضيقة. ويؤمن أن الجنوب العالمي أصبح يطالب بدورٍ أكبر في المؤسسات الدولية، في الاقتصاد والأمن، بما يعكس وزنه الحقيقي الذي تعبر عنه حصته من حجم الاقتصاد العالمي. لكن التحوّل القادم، في رأيه، لن يكون سلسًا، وإنما مؤلمًا مثل ولادة عسيرة، وليست الحروب القائمة سوى أعراض لولادة نظام جديد.
في المقابل، يقدم بوافنتورا دي سوسا سانتوس، قراءة نقدية جذرية للنظام الغربي من منظور ما بعد كولنيالي. وهو لا يرى الغرب أعمى، بل عاجزًا عن الرؤية بحكم بنيته الفكرية والمؤسساتية القائمة على الإنكار والتفوقية والتهميش. وينتقد سانتوس الليبرالية الغربية على تواطئها التاريخي مع الاستعمار، واستمرارها في إنتاج اللامساواة من خلال العولمة النيوليبرالية. ويشير إلى تمسك الغرب بنموذج في التنمية والعلاقات الدولية يقوم على السيطرة والاستغلال ورفضٍ عميق للاعتراف بأي بدائل معرفية وثقافية من خارج المركز الغربي. ويرى أن عجز الغرب عن التصدي بفعالية لأزمات، مثل التغير المناخي، والهجرة الجماعية، والفقر المستمر، هو دليل على عمى أخلاقي وسياسي أعمق. ويدعو سانتوس إلى عالم «تعددي الأكوان»، تُحترم فيه الرؤى الحضارية والثقافية المختلفة في السياسة والاقتصاد والبيئة وتُمنح فيه الفرصة للازدهار.
تقارب أسوكا بنداراجي التحوّلات العالمية من منظور السياق الآسيوي، خصوصًا في الهند وسريلانكا، حيث تتجلّى تناقضات النظام الدولي في أبسط التعاملات. وفي حين ينظر ساكس إلى الهند كواحدة من القوى الصاعدة البديلة ويطالب بمنحها مقعدًا دائمًا في مجلس الأمن، تصف بنداراجي علاقة الهند مع جيرانها الأصغر، مثل بنغلادش وسيريلانكا، من موقع الهيمنة والتحكُّم، بطريقة تعيد إنتاج طريقة الإمبريالية الغربية نفسها. وهو ما يطرح السؤال حول ما إذا كانت القوى والتكتلات الناشئة ستقدم بديلًا عن المؤسسة الغربية أم أنها ستحاكيها.
تتناول بنداراجي الحرب الباردة الجديدة بين الولايات المتحدة والصين، وكيف تُحوِّل دول الجنوب الصغيرة إلى مساحات صراع بين القوى الكبرى. وتنتقد النموذجين الأميركي والصيني على السواء، وترى أنهما يخدمان النخب الاقتصادية ولا يعبآن بحاجات الشعوب أو بالاستدامة البيئية. تشير إلى أزمة الديون في سريلانكا كمثال على كيفية استخدام الاقتصاد كأداة للهيمنة. وتُحذّر من الوقوع في فخّ استبدال هيمنة بأخرى، وتدعو إلى نهج عدم انحياز حقيقي، مستند إلى العدالة والسلام والتنمية المرتكزة على الإنسان.
يجمع بين هذه المقالات الثلاث إدراك عميق لحقيقة أن النظام الدولي الراهن فقد شرعيته الأخلاقية والسياسية، وأصبح عاجزًا عن الاستجابة لتحديات العالم الحديث. وتتقاطع رؤى الكتاب الثلاثة عند التشكيك في قدرة الغرب على قيادة عالمٍ متعدّد المصالح والهويات، والإيمان بأن الجنوب العالمي ليس مجرد متلقٍ للتاريخ، وإنما في طور إعادة صياغة التاريخ. ويرفض الكُتاب الثلاثة جميعًا الحتمية الغربية، ويدعون إلى تصور بدائل تنبع من الثقافات والتجارب المختلفة.
لكن ثمّة تباينات دقيقة بين الكتّاب لا تقل أهمية عن مواطن التقائهم. يبدو ساكس أكثر إصلاحيّةً، وما يزال يعوّل على إمكانية إصلاح النظام الدولي بتفعيل مؤسسات مثل الأمم المتحدة. أما موقف سانتوس، فأكثر راديكالية. وهو يشكك في افتراضات ساكس بأن الأمم المتحدة ما تزال عاملة، وأن هناك أحادية قطبية في المقام الأول. وهو يرى أن العطب يكمن في الأسس الفكرية الغربية ذاتها، ولي في السياسات المنبثقة عنها فحسب. وتضيف بنداراجي إلى هذه الرؤى بعدًا واقعيًا إنسانيًا حين تُحذّر من أن تطاحن القوى الكبرى غالبًا ما يدفع ثمنه الفقراء والضعفاء في بلدان الجنوب.
لا تقدم هذه المقالات الثلاث وصفة جاهزة لكيفيات النظام العالمي البديل، لكنها تفتح نوافذ ضرورية للتفكير النقدي ومحاولة توجيه الاحتمالات. وهي تدعو جميعًا إلى ضرورة تجاوز عقلية الهيمنة، واستبدالها بعقلية الحوار والاحترام المتبادل والتعاون الدولي. تبدو رؤية سانتوس بأن الغرب «لا يستطيع أن يرى» اليوم أكثر واقعية من كونها مجازًا فلسفيًا. وإذا كانت قوى الجنوب، كما يشير ساكس وبنداراجي، قد شرعت في التعبير إرادتها بصوتٍ أعلى، فإن مستقبل النظام الدولي سيتحدد بمدى قدرتها على تحويل هذا الصوت إلى فعلٍ سياسيّ واقتصاديّ جمعي، يُخرج العالم من دوامة الانقسام والاستغلال إلى أفقٍ جديد من العدالة والمساواة والاحترام المتبادل.