عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    02-Dec-2025

القراءة تتغير: ماذا تكشف عادات 115 ألف طفل للقراءة عن مستقبل الكتاب؟

 الدستور-لينا أبوسمحة

تُمثل القراءة حجر الزاوية في أي حضارة، وهي البوابة التي لا غنى عنها للمعرفة والتفكير النقدي. إلا أن هذا المفهوم الحيوي ليس ثابتًا، بل هو في تحوّل مستمر، خاصةً في عصرنا الراهن الذي سيطر عليه التحول الرقمي وتعدد الوسائط للوصول للمعلومات والتواصل. وفي هذا السياق، يقدم تقرير (مستقبل القرائية: القراءة متعددة الوسائط) الصادر عن الصندوق الوطني للقراءة في المملكة المتحدة رؤية جريئة ومقنعة لإعادة تعريف ما يعنيه أن تكون «قارئًا» اليوم.
التقرير الذي أعدّته مؤسسة National Literacy Trust البريطانية، وهي جهة مستقلة وغير ربحية تعمل منذ أكثر من ثلاثين عامًا على تطوير مهارات القراءة واللغة لدى الأطفال والشباب في المملكة المتحدة. وقد استند في نتائجه إلى المسح السنوي الواسع للقراءة الذي تنفّذه المؤسسة، وشمل هذه المرة نحو 115 ألف طفل وشاب من أكثر من 500 مدرسة، حيث جُمعت البيانات عبر استطلاعات دقيقة داخل الفصول، وبشراكات تمويلية ودعم من القطاع الثقافي والنشري والمؤسسات التعليمية. هذا الحجم الهائل من العيّنة، إلى جانب منهجية المسح الطولية التي تتبعها المؤسسة، يمنح التقرير وزنًا استثنائيًا، ويجعلنا أمام تصور جديد لعلاقة الأطفال الفعلية بالقراءة.
ومن أبرز ما تكشفه تلك البيانات أن السؤال التقليدي حول الأفضلية بين القراءة الورقية والرقمية لم يعد يعني شيئا للأطفال أنفسهم؛ فالطالب الذي يحمل كتابًا ورقيًا في المدرسة لا يجد حرجًا في متابعة فصل جديد عبر جهاز لوحي، ولا يرى تناقضًا بين الاستماع إلى كتاب صوتي قبل النوم وقراءة قصة قصيرة مطبوعة مع معلمه في الصباح. لقد تحوّلت القراءة لديهم إلى ممارسة منفتحة لا تتصادم فيها الوسائط، بينما ما زلنا نحن نناقشها بمنطق «إما هذا أو ذاك».
وتشير البيانات إلى أن الكوميكس هو الوسيط الأكثر استمرارية في ممارسات القراءة لدى الأطفال، خصوصًا في الفئات العمرية الأصغر. وفي الوقت الذي يصرّح فيه بعض التلاميذ بأنهم «لا يحبون القراءة»، نجدهم في الوقت نفسه منجذبين للكوميكس، وكأن المشكلة لم تكن في القراءة بحد ذاتها، بل في أسلوب تقديمها. إن هذا النوع من النصوص يخفّف من رهبة الصفحة الممتلئة، ويمنح الطفل تتابعًا بصريًا طبيعيًا يساعده على بناء خيال قصصي واضح، لا سيما عند من يعتمدون على الإدراك البصري أو يواجهون صعوبة في التركيز على الأسطر الطويلة.
وإذا كانت الصورة تفتح بابًا جديدًا للقراءة، فإن الصوت يعيده إلى جذوره الأولى. فالكتب الصوتية التي يُظهر التقرير ارتفاعًا كبيرًا في الإقبال عليها لا تعبّر عن كسَل كما يظن البعض، بل عن عودة طبيعية إلى أوّل أشكال التعلّم اللغوي: الاستماع. الأطفال الذين يجدون القراءة الورقية مرهقة أو صعبة، سواء بسبب صعوبات تعلم أو ضعف في الدافعية، يجدون في الصوت مساحة آمنة للدخول إلى عالم القصة. ومن اللافت أيضا أن التقرير يشير إلى أن كثيرًا منهم يعودون لاحقًا إلى الكتب المطبوعة بعدما تتعزّز لديهم الثقة والخيال اللغوي عبر الاستماع، وهو ما يجعل الكتاب الصوتي جسرًا حقيقيًا لاكتساب القراءة وليس بديلًا عنها.
وما يريد التقرير قوله لنا، بوضوح، هو أن مستقبل القراءة لا يمكن أن يُختزل في وسيط واحد أو أسلوب واحد. فالقراءة ممارسة تتشكّل في البيت كما في المدرسة، وفي المكتبات كما على الشاشات، بين الورق والصوت والصورة. وإذا كنا نريد جيلًا قارئًا بحق، فعلينا أن نقدّم له منظومة مرنة تستوعب فضوله بدل أن تقيده بنموذج واحد لم يعد مناسبًا لعالمه.
إن الخوف من فقدان صورة القراءة التقليدية هو خوف الكبار، لا الأطفال. فهؤلاء مضوا بالفعل في بناء علاقة جديدة مع النصوص، علاقة لا تعترف بالحدود بين الوسائط، ولا ترى في الشاشات أو الكوميكس أو الكتب الصوتية خطرًا، بل أدوات طبيعية للتعلّم. وإن كنا نريد لهم مستقبلًا لغويًا وثقافيًا أعمق، فعلينا أن نرافقهم في هذا التحوّل بدل أن نُرغمهم على العودة إلى طرق لم تعد تعبّر عنهم.
فالقراءة لا تختفي  إنها فقط تتغيّر.
والمجتمع الذي يُدرك هذا التغيّر مبكرًا هو القادر على أن يضمن لأبنائه حقهم الكامل في أن يكونوا قرّاء، وبالطريقة التي تشبه عالمهم وتفتح أمامهم أبواب المعرفة.
المرجع: Future Of Literacy | National Literacy Trust