الدستور
الترف عند البعض حاجة عند البعض الآخر. كلاهما يلتقيان لغرضين مختلفين. مثل ذلك الوطن والفلافل. الصنف الأول الوطن عنده بقرة حلوب، حليبها امتيازات ورواتب وواسطات وهيبة مؤقتة. عند الطرف الثاني الوطن أرض وتاريخ وشجر وخبز ومكان مولد ونهاية في ترابه.
قبل النهاية وطيلة حياته، يزرع ويعرق إن كان فلاحًا ليقدم لأبناء الوطن القمح والبندورة والخيار والزهرة والبتنجان. وإن كان موظفًا يعمل بإخلاص، من أول ساعة في الدوام المقرر إلى آخر دقيقة. لا يتبرم في وجه مراجع ولا يقول له: ارجع بكرا لكي لا يكلف نفسه بتوقيع على معاملة أو يتحرك عن كرسيه ليتناول ورقة معاملة.
ربما مزاجه متعكر لمشكلة صباحية مع زوجته أو تشاجر مع سائق سيارة من أولئك الذين يخرجون في نفس ساعة دوامهم وليس قبل وقت كاف للوصول، فيتجاوزون السيارات الأخرى بسرعة جنونية ولا يعترفون بالخطوط التي تحدد مسارات الشارع، وقد يظن أنها رسمت كزينة للأسفلت لا لتحدد المسارب. كما يظن أن إعطاء إشارة لاتجاه سيره قبل مسافة كافية أو حتى غير مقتنع بفائدة الإشارة أصلا، ولا داعي لوجودها في السيارات.
عندما تخرج في ما يسمونه «وقت الذروة» انتهاء الدوام الرسمي وخروج المدارس، تجد أن الكل «مستعجل». في الصباح مستعجل للوصول إلى مكان عمله، وعند العودة مستعجل ليعود إلى البيت. وتراه يكتب على سيارته أو على مكتبه: «في العجلة الندامة وفي التأني السلامة» أو «لا تسرع يا بابا نحن في انتظارك»!
رائحة الفلافل شهية لكلا الطرفين، الأغنياء والفقراء. وفي هذا يتشابهان، فنحن كلنا أولاد تسعة. لكل منا فم واحد وعينان وشفتان ونفس واحدة. لكن بعضنا يأكلها اشتهاءً أو كأكلة تراثية وربما يطلبها دليفري كتشكيلة على المائدة مع ما لذ وطاب وغلا سعره.
أما الفقراء فيأكلونها ليس من قبيل الاشتهاء، بل لأنهم أصبحوا، أو بمعنى أدق، أدمنوا عليها بسبب ضيق ذات الجيب.
أمام مطعم صغير يقف طابور في ساعات الذروة بالنسبة لأولئك الذين يذهبون لعملهم ما بين السابعة والثامنة صباحا. طابور مختلط من رجال ونساء وأولاد، وأحيانا.. أنا. صاحب المطعم رجل ستيني، معلم محترف، يساعده ابناه. علمهم الإتقان والسرعة والابتسامة التي تضاهي الشهية للفلافل.
أمامه أنواع من الخبز، المشروح والسمون والعادي، حسب الطلب. أنواع من السلطات، بطاطا وبتنجان ومخللات.
يسألك: كيف تحب سندويشتك؟ يقصد أي نوع من الخبز وماذا يحشوها.
سريعا يجهزها وابنه يلفها ويعطيك أكلة ولا أشهى.
هذا عدا الفول والحمص في علب بأحجام وأسعار مختلفة، بنص دينار وبثلاثة أرباع والكبيرة بدينار.
أمام صاج الفلافل الكل سواسية.