الغد
في نيويورك، المدينة التي لا تنام، صعد شاب أسمر من أصول بعيدة إلى منصة التاريخ.
زهران ممداني يفوز في انتخابات عمدة نيويورك سنة 2025، في لحظة تفيض بالرمزية، وتكشف عن نزعة الإمبراطورية إلى تجديد نفسها.
الحدث تجاوز حدود السياسة المحلية، واتخذ شكل اختبار جديد لأميركا، وهي تحاول إعادة تعريف نفسها في زمن الارتباك والانعزال.
ابن أوغندا والهند ونيويورك، حفيد القارات الثلاث، يقف على منصة المدينة العالمية، كأن التاريخ يعيد رسم خرائطه عبر وجهه.
والسؤال الذي يتردد في الكواليس، من الذي انتصر فعلا، زهران ممداني أم فكرة أميركا عن ذاتها؟
ولد زهران في أوغندا سنة 1991، لأسرة تصنع الأفكار كما تُصنع الأفلام، والده المفكر الأوغندي من أصل هندي محمود ممداني، المولود سنة 1946، صاحب النظرية الشهيرة في فهم السلطة والهوية والعدالة، وأمه المخرجة العالمية ميرا ناير، المولودة سنة 1957، التي أخرجت أفلاما شكلت ذاكرة الجنوب العالمي مثل سلام بومباي وزفاف موسمي.
بين الأب الذي يسائل العالم بالفكر، والأم التي تحوله إلى صورة، تشكل وعي زهران، وانصهرت في شخصيته الفكرة باللقطة، والمنفى بالانتماء.
تنقل بين كيب تاون ونيويورك، بين جنوب أفريقيا الخارجة من الفصل العنصري، وأميركا الغارقة في اختباراتها العنصرية الخفية.
ومن تلك التناقضات صاغ رؤيته للعالم، في نيويورك، المدينة التي تبتكر هوياتها كل عقد، تعلم أن السياسة، إلى جانب السلطة، عرض متقن للرموز، وتعلم أن الوجوه المهاجرة يمكن أن تكون مفاتيح نفوذ جديدة.
تزوج من الرسامة السورية الأميركية راما دواجي، فنانة بصرية تنسج من الذاكرة والهجرة فنا ملونا يشبه التيه الإنساني، معها اكتمل المشهد الرمزي، مدينة بأكملها تختبر ذاتها في بيتين، واحد للفكر وآخر للفن، حيث تتقاطع السياسة بالعاطفة، والهوية بالمنفى، والمدينة بالعالم.
حين أعلن فوزه بمنصب العمدة، تحولت نيويورك إلى مسرح مفتوح، الموسيقا، الأعلام، الهتاف، اللقطات المضيئة.
ليلة تشبه مهرجان وودستوك الثقافي في نسخته السياسي . كما لو أن الستينيات عادت بروحها الاحتجاجية، لكن بأزياء جديدة. مئات الآلاف في الساحات، أبناء الشتات الآسيوي والأفريقي والعربي يحتفلون بانتصارهم الرمزي، والعالم يراقب المشهد بدهشة، فالمدينة التي تحتضن المال والإعلام، تعود اليوم لتحتضن فكرة العالم المفتوح.
في الخلفية، يجلس جورج سوروس كالعازف الخفي، الرجل الذي مول المظاهرات الكبرى في أوروبا وأميركا اللاتينية، وأعاد إنتاج فكرة المجتمع المفتوح، يراقب الحدث كأنه إنجاز جديد في مختبره السياسي، فوز ممداني بالنسبة إليه ليس انتصارا شخصيا، إنما لحظة تجديد لفكرة أميركا التي تعرف كيف تصهر الهويات في بوتقة واحدة، وتعيد توزيع القوة على رموزها الجديدة.
تلك الرؤية تلتقي مع روح باراك أوباما، الذي قال يوما إن أميركا تعيد ابتكار نفسها كلما وصلت إلى حافة الانقسام. وبعد حرب غزة، احتاجت واشنطن إلى وجه يرمم المرايا المكسورة، وزهران بدا الوجه المثالي لذلك الترميم الرمزي.
اليهود في نيويورك قرأوا فوزه كخروج ناعم من ظل نتنياهو، بعد العزلة الأخلاقية التي خلفتها الإبادة في غزة، والإخوان المسلمون، باختلاف تنظيماتهم وأقنعتهم المتعددة رأوا فيه امتدادا لصوتهم الغربي، وقد يعيد تدويرهم مرة أخرى، والهنود اعتبروه رمزا لنهضتهم الثقافية في العالم الجديد، والأفارقة احتفلوا به كعودة رمزية للتحرر من استعمار قديم.
كل جماعة رأت فيه ملامحها الخاصة، والمدينة بدت كأنها تبتسم وهي تمتحن نفسها بالنار.
وفي مشهد أكثر اتساعا، تصعد أسماء آسيوية أخرى إلى واجهة السياسة في العواصم الكبرى، كامالا هاريس في واشنطن، ريشي سوناك في لندن، صادق خان في قلب بريطانيا، وجوه الشتات تخرج من الهوامش إلى المراكز، والسياسة تتحول إلى مسرح للهويات، والعالم يصفق مذهولا أمام لعبة التبديل الكبرى.
منصب عمدة نيويورك لا يقف عند حدود البلديات، إنه يدير اقتصادا يوازي ميزانية دول متوسطة، ويشرف على أعصاب المال والإعلام والثقافة.
كل قرار ينعكس عالميا، وكل كلمة تترجم إلى أسواق وسياسات، وزهران يدخل هذا المسرح بشخصية متشابكة، بين الواقعي والرمزي، بين المهاجر والمتحكم.
فوزه يشكل لحظة انعطاف في السردية الأميركية، الإمبراطورية التي تتقدم نحو شيخوختها تبحث عن شبابها في المهاجرين، ونيويورك تختبر ذاتها كمرآة للعالم.
بين أوباما وسوروس وكامالا هاريس، وبين الغضب من إبادة غزة وصعود الشتات الآسيوي، تتشكل لحظة جديدة في قلب أميركا، لحظة تعيد رسم العلاقة بين القوة والثقافة، بين السياسة والرمز، وتطرح سؤالا ساخرا تحت الأضواء: من يحكم فعلا، العمدة المنتخب أم المدينة التي اخترعته؟
وفي النهاية، كما في كل مشهد نيويوركي، الشيطان لا يغيب عن التفاصيل.