ما وراء الهدنة:هل تسعى إسرائيل للسلام أم لإعادة التموضع؟*د. محمد كامل القرعان
الراي
بينما يلهث العالم وراء هدنة إنسانية في غزة، وتسوّق بعض العواصم الغربية مقترحات التهدئة باعتبارها “فرصة للسلام” و“استجابة للمعاناة”، تتكشف خيوط خطة محبوكة تُخفي وراءها هدفًا إسرائيليًا استراتيجيًا أكثر من كونه إنسانيًا. فالهدنة المقترحة بين إسرائيل وحماس ليست سوى هندسة سياسية وأمنية إسرائيلية، تهدف لتخدير الميدان لا إطفاء نيران الحرب. فبعد أكثر من تسعة أشهر من القصف والتدمير والتهجير، لم تحقق إسرائيل ما وعدت به في الأيام الأولى من "اجتثاث حماس" أو "تحرير الرهائن بالقوة". وبين العجز الميداني والتآكل السياسي في حكومة نتنياهو، تأتي الهدنة كمتنفس استراتيجي يتيح إعادة ترتيب أوراق الاحتلال وإعادة التموضع العسكري تحت غطاء “الانسحاب المرحلي”، لا خطوة صادقة نحو حل دائم.
كما تسعى إسرائيل إلى تكريس واقع الاحتلال، والحفاظ على قبضتها السياسية والأمنية في ظل غياب أي أفق حقيقي للحل. إنها هدنة تكرّس التجزئة الفلسطينية، بفصل غزة عن الضفة، وتحاول ضرب مشروع المقاومة من الداخل عبر الإنهاك والتفكيك، وتمنح إسرائيل فرصة لالتقاط أنفاسها العسكرية وجمع المعلومات، وتلميع صورتها دوليًا بعد أن تشوّهت بفعل المجازر التي ارتكبتها والتي وثّقتها مؤسسات دولية محايدة.
والمؤسف أن بعض الأطراف الدولية والعربية تنخرط في تمرير هذه الهدنة وكأنها فرصة أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بينما هي في حقيقتها تطيل أمد الاحتلال وتمنحه شرعية مؤقتة لارتكاب جرائم جديدة لاحقًا. إن السلام لا يُصنع من رحم الخداع، ولا يبنى على حساب العدالة وحقوق الشعوب. فالهدنة الحقيقية تبدأ حين تُرفع يد الاحتلال عن الأرض الفلسطينية، وتُعاد الحقوق لأصحابها، ويُحاسب المجرمون على ما ارتكبوه.
لا سيما أن منح الفلسطينيين حقهم المشروع في إقامة دولة مستقلة ذات سيادة على حدود الرابع من حزيران 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، هو استحقاق أقرّته قرارات الشرعية الدولية، وكرّسته الاتفاقيات الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، وعلى رأسها اتفاق أوسلو، ما يجعل أي التفاف على هذا الحق تحت مسمى "هدنة" أو "حل مؤقت" ضربًا من العبث السياسي ومخالفة صريحة للإرادة الدولية.
وفي هذا السياق، يبرز الموقف الأردني الثابت والتاريخي في التأكيد على أن جوهر الصراع في الشرق الأوسط هو استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وتمادي إسرائيل في انتهاك القانون الدولي والتعدي على حقوق الشعب الفلسطيني ودول الجوار. لقد بقي الأردن، بقيادة جلالة الملك عبد الله الثاني، وفيًا لحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة، ومدافعًا عن القدس والمقدسات، ومتمسكًا بحل الدولتين باعتباره السبيل الوحيد لتحقيق السلام العادل والدائم.
فلسطين لا تحتاج إلى هدنة مؤقتة، بل إلى حرية دائمة وعدالة كاملة، يُقرّ بها العالم ويحميها القانون، ويقف من أجلها الشرفاء.