عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    23-Dec-2025

خطوط حمراء عربية*جمال الكشكي

 الغد

السؤال المركزي الذي يفرض نفسه هنا، لماذا يحتاج الإقليم العربي إلى خطوط حمراء في هذه اللحظة التاريخية تحديدا، كما يعكسه البيان المصري الخاص بالسودان؟
البيان المصري بشأن السودان يكشف عن تحول نوعي في مقاربة القاهرة للأزمات الإقليمية، تحول ينتقل من إدارة التداعيات إلى تعريف الحدود، ومن لغة الدبلوماسية والتحذير إلى لغة المصالح المحمية. 
 
 
حين تعلن مصر أن وحدة السودان وسلامة أراضيه، ومؤسسات دولته، تمثل خطوطا حمراء، مرتبطة مباشرة بالأمن القومي المصري، فإنها تضع إطارا سياسيا وإستراتيجيا يتجاوز الحالة السودانية، ليطرح سؤالا أوسع حول غياب هذا الإطار عن الإقليم العربي كله خلال العقود الماضية.
الإقليم العربي دخل مرحلة سيولة إستراتيجية غير مسبوقة، حيث تراجعت الدولة الوطنية لصالح الفاعلين المسلحين، وتقدمت شبكات النفوذ الإقليمي والدولي على حساب السيادة، وتحولت النزاعات الداخلية إلى منصات مفتوحة لإعادة ترتيب موازين القوى العالمية.
 في هذا السياق، غاب تعريف جامع لما يمثل خط الدفاع الأخير عن الدولة، فانهارت دول، وتآكلت مؤسسات، وتحول الصراع من خلاف سياسي قابل للاحتواء إلى حرب تفكيك طويلة المدى.
الخطوط الحمراء، في هذا المعنى، لا تمثل اندفاعا نحو المواجهة، وإنما تؤدي وظيفة تنظيم الصراع، وضبط مساراته، عبر رسم سقف سياسي واضح، يحدد ما يمكن التفاوض حوله، وما يدخل في نطاق الحماية الإستراتيجية.
 عندما تعلن دولة مركزية أن وحدة السودان، وسلامة مؤسساته، تشكل مجالا محميا، فهي تفتح الطريق أمام حل سياسي واقعي، يمنع انزلاق النزاع نحو التقسيم، ويغلق الباب أمام شرعنة الكيانات الموازية، وتحويل العنف إلى قاعدة حكم.
التجارب العربية القريبة تقدم شواهد لا يمكن تجاهلها، في ليبيا قاد غياب خطوط فاصلة تحمي مركزية الدولة إلى تفكك طويل الأمد، وتدويل الصراع، وتعدد السلطات.
 في فلسطين فتح الغياب، للخطوط الرادعة، الباب أمام حرب مفتوحة على الأرض، والسكان والبنية المجتمعية.
في سورية أدى غياب تعريف حاسم لحدود السيادة، ووحدة القرار، إلى خريطة نفوذ متشابكة، ما زالت مفتوحة على احتمالات معقدة.
واليوم يقف السودان أمام مفترق مشابه، حيث يتداخل النزاع الداخلي مع تدخلات خارجية، وسعي محموم لإعادة توزيع النفوذ.
البيان المصري يلفت الانتباه إلى خطر الكيانات الموازية، وهو خطر مركزي في المشهد العربي الراهن، تحويل الميليشيا إلى فاعل سياسي، ومنحها شرعية تفاوضية مستقلة عن الدولة، قاد في أكثر من تجربة إلى تقويض فكرة الدولة ذاتها، والخط الأحمر هنا يعني أن أي مسار سياسي لا ينطلق من مركزية الدولة ومؤسساتها يحمل في داخله بذور الفشل، مهما بدا واقعيا أو مرحليا.
كما أن الربط بين السودان والأمن القومي المصري، يعيد الاعتبار لفكرة الأمن العربي المشترك من زاوية عملية، النيل شريان وجودي، والبحر الأحمر ممر إستراتيجي مفتوح على تنافس دولي متصاعد، والعمق الإفريقي ساحة صراع حاد بين قوى كبرى. 
من دون تعريف عربي واضح لما يمثل مجالا محميا، ستظل هذه الجغرافيا عرضة لإعادة التشكيل من الخارج، وفق حسابات لا تراعي استقرار الشعوب، ولا وحدة الدول.
من هذه الزاوية تبدو استعادة حركة قطع الشطرنج في الاتجاه الصحيح توصيفا دقيقا للحظة الراهنة، الإقليم العربي فقد زمام المبادرة عبر سنوات من إدارة الأزمات برد الفعل، والخطوط الحمراء تمثل خطوة أولى لاستعادة هذا الزمام، عبر إعلان ثوابت غير قابلة للتآكل، وفي مقدمتها وحدة الدولة الوطنية، وسلامة مؤسساتها، ورفض تحويل النزاعات إلى أدوات دائمة لإعادة إنتاج الفوضى.
أما الحل في السودان، وفي الإقليم عموما، فينطلق من هذا الفهم ذاته، حل سياسي سوداني يستند إلى وقف شامل لإطلاق النار، حماية المدنيين، فتح ممرات إنسانية، ثم إطلاق مسار سياسي منضبط بسقف وحدة الدولة ورفض التقسيم، مع إعادة بناء المؤسسة العسكرية على أسس وطنية، وضمان انتقال مدني تدريجي يحظى بدعم إقليمي ودولي متوازن.
هذه المعادلة تصلح نموذجا أوسع للتعامل مع أزمات الإقليم، حيث يصبح الخط الأحمر نقطة انطلاق للحل، لا عقبة أمامه.
في المحصلة، حاجة الإقليم العربي إلى خطوط حمراء تنبع من حاجته إلى استعادة المعنى السياسي للدولة، وإلى إعادة ضبط العلاقة بين الداخل والخارج، من دون هذه الخطوط، يبقى الإقليم ساحة مفتوحة لإعادة الهندسة، وتبقى شعوبه رهينة صراعات تتجاوزها.
إن البيان المصري حول السودان يقدم نموذجا لمحاولة كسر هذا المسار، وفتح باب لمرحلة جديدة، عنوانها حماية الدولة كشرط أساسي لأي سلام قابل للحياة.