عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    02-Jun-2025

أوروبا تغير نبرتها.. وإسرائيل في مرمى المراجعة*مالك العثامنة

 الغد

الجمعة الماضية، وخلال المؤتمر الصحفي المشترك مع رئيس وزراء سنغافورة صرح الرئيس الفرنسي ماكرون بما يلي:
 "إذا لم يكن هناك ردّ يتناسب مع حجم الكارثة الإنسانية خلال الساعات والأيام المقبلة، فمن الواضح أنه يجب تشديد الموقف الجماعي (الأوروبي)، وتطبيق ما التزمنا به من قواعد، أي وضع حد (لاتفاقية) تتطلب احترام حقوق الإنسان، وهو ما لا يحدث الآن، وتطبيق العقوبات".
 
 
موقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخير لم يصدر من فراغ، بل شكّل تتويجاً لمسار طويل من التململ الأوروبي تجاه سياسات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإذا كان ماكرون قد وضع صوته على الطاولة مؤخراً، فإن القرار الأهم والأكثر دلالة كان إعلان كايا كالاس، مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، عن إطلاق عملية مراجعة رسمية لمدى التزام إسرائيل باتفاقية الشراكة الأوروبية، وهي اتفاقية تربطها معايير واضحة تتعلق باحترام حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية.
هذا الإعلان لم يكن ليحدث لولا تراكمات سابقة وإشارات قوية جاءت من عواصم أوروبية مختلفة، كان أبرزها ربما رسالة رسمية من حكومتي إسبانيا وإيرلندا في فبراير من العام الماضي، طالبت المفوضية الأوروبية بإعادة النظر في التزام إسرائيل بتلك الاتفاقية، لكن الرسالة ظلت دون صدى يُذكر، إلى أن جاءت الرسالة المفصلية واللافتة من وزير الخارجية الهولندي كسبار فيلدكامب، في السادس من مايو، وهو سفير سابق في تل أبيب ويمثل حكومة تعد من أكثر الحلفاء الأوروبيين قرباً من إسرائيل تاريخياً.
هنا بالتحديد بدأت ملامح التحوّل، إذ لم يعد ممكناً تجاهل أن المزاج الأوروبي يتغير، حتى في الدول التي طالما وفّرت الغطاء السياسي والأخلاقي لإسرائيل.
 فالوضع الإنساني في غزة تخطى كل حدود الاحتمال، وباتت مشاهد الموت والدمار والمجاعة اليومية التي تتسرب إلى الرأي العام الأوروبي كافية لكسر صمامات الصمت والتواطؤ، وتشكل امتحانا قاسيا لأوروبا أمام القيم الإنسانية التي تتباهى بها.
حتى رئيس التشيك، المعروف بولائه المطلق لإسرائيل، قالها صراحة: "الوضع الإنساني في غزة لا يُطاق". وهذا ليس مجرد تصريح عابر، بل إعلان عن بداية مراجعة في العلاقة مع حكومة اليمين الإسرائيلي، التي تمادت في عدوانها دون حسابات أو روادع.
لكن رغم كل تلك المعطيات في زحزحة واضحة في المزاج الأوروبي الرسمي، إلا أن هذه المراجعة، على أهميتها الرمزية، تصطدم بجدار سياسي واقعي: الاتحاد الأوروبي لا يتحرك إلا بإجماع دوله الأعضاء، وهو إجماع يصعب تحقيقه في ظل صعود قوى يمينية متطرفة في أكثر من عاصمة، فمن البرتغال إلى فرنسا، ومن هولندا إلى ألمانيا، يزداد حضور الشعبويين الذين يرفضون مقاربة حقوق الإنسان كمعيار في السياسات الخارجية، ويرون في إسرائيل شريكاً استراتيجياً في قضايا مثل الأمن والهجرة و"حماية الهوية".
أما في الخلفية، فثمة تغيرات أعمق في توازنات العالم، فالولايات المتحدة، الحليف التاريخي لإسرائيل، تتصرف اليوم بلا بوصلة واضحة في تحديد من هو الحليف ومن هو العدو، ولا من هو الشريك ومن هو الخصم، هذا التخبط الأميركي ينعكس على حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط، الذين وجدوا أنفسهم مراتٍ كثيرة في موقع المتلقي لقرارات لم يكونوا جزءاً من صناعتها.
في كل هذا المشهد المتقلب، تظل إيران حاضرة في العقل الأميركي كرقم صعب لكن ضمن دائرة أهداف مصلحية، فواشنطن لا تريد فعلياً كسر إيران، بل احتواءها، وهي تدرك أن طهران، مثل أنقرة، تمثل عنق الزجاجة في الجغرافيا السياسية للمنطقة.
ولذلك، لم تعد المسألة مسألة شعارات أو محاور، والذكاء السياسي اليوم يُقاس بقدرة الدول على قراءة اللحظة، والتعامل معها بهدوء واتزان.
 ومن هنا، تبرز دول في الشرق الأوسط، كنماذج لعقل الدولة الذي لا ينفعل مع الموجة، بل يقرأها ويحللها ويتحرك بمقدار، مدركاً أن إدارة المصالح تتطلب أعصاباً باردة، وأدوات مرنة، لا شعارات مرتفعة ولا مواقف صاخبة.