الغد
لم يعد هذا السؤال ترفا، بل ضرورة لفهم ما يتشكل في العمق الاجتماعي الأردني، فهناك مسار طويل تراكمت فيه أنماط تفكير محافظة وانغلقت المساحة المدنية أمام قيم العقل والحداثة، مما أتاح لبذور التطرف أن تجد بيئة ملائمة، ليس بوصفه ظاهرة سياسية، بل كتحول سوسيولوجي هادئ تراكم عبر عقود.
فالدولة، في مراحل عديدة، سمحت لهيمنة الخطاب الإسلامي الحركي أن يحل محل قيم المواطنة الحديثة، واستخدمته – الدولة نفسها- أداة ضبط اجتماعي، وسياسي.
ومع ضعف الخطاب المؤسسي لدولة المؤسسات والقانون، وصعود شبكات دينية موازية، أخذ المزاج العام يتشكل وفق يقينيات مغلقة لا وفق قيم النقد والمعرفة، وهكذا ظهر الداخل الاجتماعي المزدوج، ظاهر محافظ، وباطن قابل للانجذاب نحو الإقصاء.
هذا الميل يظهر بوضوح في الفضاء الرقمي، ففي أجواء عيد الميلاد المجيد التي نعيشها اليوم، يتحول خبر بسيط مثل إضاءة شجرة الميلاد إلى حدث استثنائي يثير موجة تعليقات تهاجم حقا اجتماعيا طبيعيا يفترض أنه غير قابل للنقاش في دولة المواطنة، المشكلة ليست في رأي فردي، بل في مئات المواقف التي تكشف ابتعادا مقلقا عن الأساس الدستوري الذي يجعل الحقوق ثابتة غير خاضعة للمزاج.
ولا يمكن فصل ذلك عن المدرسة والمنظومة التعليمية بقطاعيها العام والخاص، فهناك مناهج حديثة جاهزة، منها منهج كامل لمادة الموسيقى، موضوع منذ عام 1996 في مستودعات وزارة التربية، لكنه لم يطرح خوفا من ردود فعل المجتمع، وهذه ليست قصة منهج مؤجل، بل قصة دولة ما تزال تتردد أمام ضغط اجتماعي يرفض الفن والخيال، فتترك فراغا تملؤه ذهنية متشددة تعتبر نفسها أعلى من القانون ومن المؤسسة التعليمية نفسها.
والأخطر أن هذا الخلل يمتد أحيانا إلى مواقع القرار، ففي التعليم العالي مثلا وليس حصرا، أحال أحد رؤساء المؤسسات الأكاديمية أعضاء هيئة تدريسية إلى المحاسبة لأنهم مارسوا حريتهم الشخصية في المأكل والمشرب خلال مناسبة اجتماعية في دولة أوروبية، وكأن الجامعة وصي على ضمائر الناس لا مؤسسة علم، هذا السلوك يكشف كيف يمكن للفكر المتشدد أن يتسرب إلى مؤسسات يفترض أن تكون حارسة للعقل لا ملاحقة له كأنها محاكم تفتيش جديدة.
المجتمع الأردني ليس متطرفا بطبيعته، لكنه يعيش ضغطا اقتصاديا وثقافيا طويلا أضعف موقع المواطنة لصالح الهويات الجزئية، والمواطنة هنا ليست خيارا أخلاقيا ولا تفاوضا بين فئات، بل الأساس الذي قامت عليه الدولة، والخط الأحمر الذي لا يجوز فتحه للنقاش.
السؤال إذن ليس هل نحن مجتمع متطرف، بل إلى أي مدى تركنا البذور تنمو دون مواجهة حتى صارت أدغالا متشابكة ومعقدة التركيب، وعلينا أن ندرك أن المستقبل لن يُحسم بالصوت العالي، بل بإعادة بناء التعليم والإعلام والجامعة كمساحات تكوين، وبعودة الدولة إلى موقعها بوصفها حارسة المواطنة – بمفهومها الصحي والسليم- لا المتفرج على تآكلها، وهنا تأتي وظيفة سردية "الدولة" واستعادتها.