عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    10-Oct-2025

امرؤ القيس والنساء.. أية فحولة؟!

 الدستور-د. محمد عبدالله القواسمة

ترسم الذاكرة الشعرية العربية صورة امرئ القيس، أمير شعراء العصر الجاهلي بأنه شاعر النساء. كان يطاردهن في كل مكان، ويذكر أسماءهن في قصائده، ولا يتردد في التغزل الفاضح بهن، ووصف مغامراته معهن وصفًا حسيًا، لا ينسى فيه همسة، ولا نأمة، ولا حركة. ولا يترك جزءًا من أجسادهن إلا ويبين ما فيه من جمال وليونة واتساق، وما يثيره من شهوة حيوانية.  
كثرت في شعره أسماء عشيقاته وذكرياته وغزله بكل واحدة منهن، ففي معلقته ترد عشيقته فاطمة التي يدعوها إلى تترك الدَّلالَ والتمنع مِنْ غيرِ سببٍ، وإنْ عزمْتِ على فراقِه فليكُنْ بلا أذيَّةٍ.
أفاطمُ مهلًا! بعضَ هذا التدلُّل
وإن كنتِ قد أزمعت صَرْمِي فأجْملي
ثم عنيزة، التي دخل عليها وهي في الهودج، فاحتجت بأنه سيتركها تمشي راجلة.
ويوم دخلتُ الخدر خدر عنيزة
فقالت لك الويلات إنكَ مُرجلي
 ومن النساء الأخريات، اللاتي عشقهن وورد ذكرهن في قصائد غير معلقته امرأة تدعى ماوية، التي كان يشك في حبها له، فهو يسأل إن كان تقبل أن يقيم عندها أم تهجره فينتابه اليأس من ذلك.
أماويَّ! هل لي عندكم من مُعَرَّس
أم الصرم تختارين بالوصل نيأسِ
ثم سلمى، عندما وقف على طللها وطرح عليه التحية:  
ألا عِمْ صَبَاحًا أيهَا الطلَلُ البَالي
وَهل يَعِمَنْ مَن كان في العُصُرِ الخالي
لعل من أشهر مغامراته العشقية تلك التي وردت في معلقته، التي جرت في دارة جلجل يوم الغدير مع ابنة عمه عنيزة. فاغتنم فرصة ورودها الغدير مع صويحباتها، وكمن في وهدة من الأرض. مررن به، ثم تجردن من ثيابهن ونزلن الماء، فجمع ثيابهن، وأقسم ألا يرجعها إليهن حتى يخرجن إليه متجردات. أبين في البداية، ولكن خشين أن يأتي الليل، ويتأخرن عن المنزل الذي يقصدنه؛ فخرجن عدا عنيزة، التي رجته أن يعيد إليها ثيابها، فأبى، فخرجت، فرآها مقبلة ومدبرة. وعندما شكون من الجوع ذبح لهن ناقته. يقول عن ذلك:
ألا ربّ يوم لك منهنّ صالح
 ولا سيّما يوم بدارة جلجل
ويوم عقرت للعذارى مطيّتي
فيا عجبا من رحلها المتحمَّل  
فظلّ العذارى يرتمين بلحمها
 وشحم كهدّاب الدمقس المفتّل
إن ورود هذه المغامرة وأمثالها في كتب الأدب القديم يجعلنا نثق بأنها صحيحة، رغم ما قيل فيها بأنها من قبيل الأساطير، كما ذهب إلى ذلك طه حسين وغيره. ولكن هل تلك المغامرات والقصائد الغزلية تظهر حقيقة ما يتصف به امرؤ القيس من قوة على التواصل العشقي، مع هذا العدد من النساء؟
تواجهنا اتهامات كثيرة بوهن قوة امرئ القيس الجنسية من نساء كثيرات، فهذه امرأة من بني أسد تدعى بسباسة تتهمه بأنه ضعيف من الناحية الجنسية لكبر سنه، لكنه ينكر قولها، ويدفع التهمة عنه بأنه محبب لدى النساء، وقادر على إغوائهن حتى بوجود أزواجهن، ولا يجرؤ أحد على اتهام زوجته بالميل إلى غيره:
أَلا زَعَمَت بَسباسَةُ اليَومَ أَنَّني
كَبِرتُ وَأَن لا يُحسِنُ اللَهوَ أَمثالي
كَذَبتِ لَقَد أُصبي عَلى المَرءِ عِرسهُ
وَأَمنَعُ عِرسي أَن يُزَنَّ بِها الخالي
ونراه في معلقته متباهيًا بفحولته، ومبالغًا في سيطرته على النساء بما يملك من صفات جسدية وروحية.
فمِثلِكِ حُبْلى قد طَرَقْتُ ومُرْضِعٍ
فَأَلهيْتُها عن ذي تمائمَ مُحْــوِلِ
ويرد في كتاب «الشعر والشعراء» أن من زوجاته من كشفن عن تهافته وضعفه مع اعترافهن بجمال شكله، فسأل امرأةً تزوّجها: «ما الذي تكرهه النساء مني؟» فقالت له: «يكرهن منك كذا وكذا وكذا» وذكرت أمورًا لا تُحبها النساء في الرجال.
وقيل إنه سأل امرأة أخرى من نسائه: لماذا لا تحبه النساء، وتهرب منه الزوجات والخليلات؟ فأجابته: إنك إذا عرقت فحت بريح كلب، فقال لها: صدقت فان أهلي أرضعوني لبن الكلاب ..
ويروي المفضل الضبي أن امرأ القيس كان رجلًا مفرّكًا، أي تمل النساء منه وتكرهه. ويورد في ذلك قصة امرأة من طي تزوجها تدعى أم جندب، فأبغضته من ليلتها، وقامت في نصف لليل تصرخ به: يا خير الفتيان أصبحت أصبحت! فأدرك أنها فعلت ذلك لكرهها له. وفي الصباح سألها: ماذا كرهت مني؟ لم تجب، فألح عليها، فصارحته بأنها تكرهه؛ لأنه خفيف العجز، ثقيل الصدر، سريع الإراقة، بطيء الإفاقة. وفي ذلك ما يشير إلى عجزه عن امتاعها. وعندما أتى إليها مع الشاعر علقمة الفحل؛ لتحكم بينهما في أيهما أشعر من الآخر، حكمت لعلقمة، فطلقها امرؤ القيس وتزوجت علقمة. وكثرت طلقات زوجاته، ولم تحتمله إلا زوجته هند من كندة؛ حرصًا على أولادها منه.
من الواضح - كما يرى العقاد في كتابه «اللغة الشاعرة»- أن ما خبره الرواة عن ضعف امرئ القيس الجنسي صحيح، والقول إن رضاع لبن الكلبة هو السبب قول باطل؛ لأن ذلك الرضاع لو حدث لا يُحدث تلك الرائحة.
ومثل هذا حكاية القروح التي أصيب بها، التي قيل إنها مرض كالجدري، أو من الحلة المسمومة التي أهديت إليه من قيصر الروم جستينيان الأول بعد سفره من القسطنطينية؛ لأنه تعرض لابنته لوشاية وصلت إليه من رجل ذي صلة بحاشيته؛ فهذه حكاية باطلة أيضًا؛ فالقروح لا بد أنها نشأت من ذلك المرض الجنسي؛ فامرؤ القيس كما يصفه الرواة «غوي داعر» يبيح في شعره الفسوق والفجور والخيانة والغزل الفاحش.
الخلاصة
لا شك أن ما تقدم من شعر وأخبار تبين لنا أن امرأ القيس أبدع في الغزل ووصف النساء، وامتاز شعره برقة اللفظ، ورشاقة الأسلوب، وقوة الخيال، وحسن توظيف السرد القصصي، واستخدام الحوار وجمال التصوير الحسي، الذي تأثر به كثير من الشعراء.
كما تبين تلك الأشعار والأخبار صفات امرئ القيس النفسية، بأنه كان يعاني من عقدة نقص، تتمثل في عجزه الجنسي، وأنه كان يحاول إخفاءه بالتظاهر بالقوة من خلال قصائده الطافحة بالغزل والمجون. إنه يعوض بالقول عما لا يقدر عليه بالفعل. فالمعروف في علم النفس أن من يتصف بعقدة النقص الجنسي يحاول التعويض عنها بالإكثار من الغزل، وذكر النساء والمغامرات الوهمية معهن، والمبالغة في إظهار القوة الجنسية.