الغد
لم يكن اتجاه "منظمة التحرير" نحو اتفاقيات أوسلو يمثل الإرادة الشعبية الكاملة للشعب الفلسطيني، وواجه معارضة واضحة من فصائل فلسطينية رئيسية. وقد عارضته حركتا "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، و"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" و"الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين" (ولو أنها أجرت لاحقًا مراجعات وشاركت في بعض أطره)؛ و"الجبهة الشعبية –القيادة العامة"؛ و"فتح –المجلس الثوري"؛ و"الصاعقة"، بالإضافة إلى عدد من التنظيمات الصغيرة المستقلة أو المرتبطة بسورية ولبنان. وقد شكلت هذه القوى لاحقًا ما عُرف بـ"تحالف القوى الفلسطينية" الذي تمركز نشاطه في دمشق وغزة ورفض مسار أوسلو سياسيًا وتنظيميًا. كما عارضت "أوسلو" شرائح واسعة من اللاجئين وفلسطينيي الشتات الذين رأوا أن الاتفاق يتنازل عن حقوق وطنية أساسية -وبخاصة حق العودة- مقابل مكاسب سياسية محدودة.
تطور الموقف الشعبي الفلسطيني من "عملية أوسلو" بطرق يعرفها الجميع –"السلطة"، والعرب، والقوى الدولية- لكنهم يتجاهلونها وكأنهم يأخذون الشعب الفلسطيني، صاحب القضية، كشيء مسلم به. وقد تصرف الجميع نيابة عنه، من دون تكليف حقيقي منه، وعاملوه كـ"قاصر" باعتبار أن ظروفه تمنعه من التعبير عن نفسه كشخصية متماسكة. ويمكن حتى لمراقب عادي تعقب التحول في الموقف من شيء أساسي مثل "اتفاقيات أوسلو"، سواء من نتائج استطلاعات الرأي داخل الوطن، أو مختلف وسائل قراءة المزاج العام في الشتات.
لدى توقيع "اتفاقيات أوسلو"، كانت شعبيتها عالية نسبيًا، وأيدها نحو 65 في المائة من المجتمع الفلسطيني، حسب استطلاع أجرته "مؤسسة البحوث والدراسات الفلسطينية" في أيلول (سبتمبر) 1993، بينما وصل تأييد اتفاق طابا (أوسلو 2) إلى 72 في المائة في تشرين الأول (أكتوبر) 1995. ولكن، مع مرور العقود والنكث بالوعود تغير هذا الموقف جذريًا.
بمناسبة مرور 30 عامًا على توقيع "الاتفاقيات"، أجرى "المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية" الذي يعمل في الضفة الغربية استطلاعًا للرأي في المناطق الفلسطينية في الفترة ما بين 6 و9 أيلول (سبتمبر) 2023. وكانت نتائج الاستطلاع كما يلي، منقولة حرفيًا من موقع المركز:
·تقول أغلبية تبلغ 68 في المائة أن اتفاق أوسلو قد أضر بالمصلحة الفلسطينية، فيما تقول نسبة من 11 في المائة فقط أنه قد خدم المصلحة الفلسطينية. وتقول نسبة من 17 في المائة أنه لم يخدم ولم يضر المصلحة الفلسطينية. في الذكرى السنوية الخامسة والعشرين لتوقيع اتفاق أوسلو قالت نسبة من 65 في المائة أن الاتفاق قد أضر بالمصلحة الفلسطينية وقالت نسبة من 16 في المائة أنه قد خدم المصلحة الفلسطينية.
·تقول أغلبية من 71 في المائة إنه كان من الخطأ قيام "منظمة التحرير الفلسطينية" بالتوقيع على اتفاق أوسلو، فيما تقول نسبة من 23 في المائة إنه كان من الصواب فعل ذلك.
·تؤيد أغلبية من 63 في المائة قيام السلطة الفلسطينية بالتخلي عن اتفاق أوسلو، فيما تقول نسبة من 31 في المائة إنها تعارض ذلك.
·يعتقد 67 إلى 68 في المائة أن القيادة الفلسطينية (بما في ذلك الرئيس عباس) غير جادة في التخلي عن أوسلو أو وقف التنسيق الأمني مع الكيان الصهيوني.
·ترى أغلبية من 73 في المائة من الجمهور أن الأوضاع اليوم أسوأ مما كانت عليه قبل أوسلو، في حين يرى 13 في المائة أن الوضع تحسّن و10 في المائة أنه لم يتغير. (انتهى الاقتباس)
لا توجد إحصاءات شاملة تعكس موقف الشتات الفلسطيني من "أوسلو" بالنظر إلى ما تعنيه مفردة "شتات". لكن الأدبيات والدراسات والأبحاث الميدانية المتاحة تكشف عن ملامح عامة. وتشير هذه المصادر إلى أن غالبية اللاجئين في المخيمات في لبنان وسورية والأردن رفضوا الاتفاقيات بشكل واضح، معتبرين أنها تجاهلت قضيتهم المركزية المتمثلة في حق العودة -بل ورأوا فيها تهديدًا مباشرًا لمستقبلهم السياسي والإنساني.
وعندما يتعلق الأمر بالجاليات الفلسطينية في الغرب، رحّبت بعض النخب بـ"أوسلو" باعتبارها مدخلًا لتأسيس كيان فلسطيني، لكن القاعدة الشعبية الأوسع ظلّت في معظمها معارضة -أو متحفظة على الأقل- بسبب غياب العدالة التاريخية عن التسوية المطروحة. وأكدت دراسات مثل كتاب الباحثة السويدية هيلينا ليندهولم شولتس، أستاذة دراسات الشرق الأوسط والشتات الفلسطيني في جامعة غوتنبرغ، المعنون "الشتات الفلسطيني: تشكّل الهُويات وسياسات الوطن" (2003)، وأبحاث مؤسسات مثل "بديل" أن غالبية الفلسطينيين في الشتات لم يُستشاروا أصلًا في العملية، وأن رفضهم لها ظلّ ثابتًا لأنها لم تُعالج جذور قضيتهم الوطنية.
كما تبيّن، ظل "حق العودة"، الذي يتعلق بحاضر ومستقبل اللاجئين في الوطن والشتات –أي معظم الفلسطينيين- موضوعًا لتهميش مطرد على مدى العقود الأخيرة حتى الاختفاء تقريبًا. وفي مثال قريب، لم يأتِ بيان المؤتمر الأخير الذي عقد في نيويورك في تموز (يوليو) الماضي بشأن "حل الدولتين"/ على أي ذكر صريح لحق العودة ومشكلة اللاجئين.
لكنّ أوضح تصريح بالتخلي عن حق العودة الأساسي جاء في وقت مبكر نسبيًا من "عملية السلام"، هو تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، بعد 9 سنوات تقريبًا من توقيع "أوسلو". في ذلك الحين، قال الرئيس الفلسطيني محمود عباس في مقابلة مع "القناة الثانية" الصهيونية:
"زرت صفد مرة من قبل. أريد أن أراها. من حقي أن أراها، لكن ليس أن أعيش فيها.. فلسطين بالنسبة لي الآن هي حدود 1967، مع القدس الشرقية عاصمة لها. هذه هي فلسطين بالنسبة لي. أنا لاجئ، لكنني أعيش في رام الله. أعتقد أن الضفة الغربية وغزة هما فلسطين، والأجزاء الأخرى هي إسرائيل".
يغلب ألا يقول لاجئ فلسطيني للعدو أنه لا يريد العودة إلى –أو أنه لا حق له في- العيش في مدينته أو قريته الأصلية، وأن حقه أن يراها، وإنما ليس العيش فيها. وليس عباس شخصًا عاديًا يتحدث عن أشواقه الشخصية بحرية؛ إنه الشخصية الاعتبارية الرسمية المعتمدة للتحدث باسم ملايين الفلسطينيين. وسوف يفكر الفلسطيني بأن في هذا التصريح، الذي تؤيده الأفعال، تنازل عن حقوقه الوطنية والإنسانية، من شخصية لا تمتلك –فلسطينيًا- الشرعية القانونية ولا الشعبية للتحدث باسمه وتمثيله.
كما يمكن أن يقترح مراقب بقدر جيد من الأمان، لا يتحدث الخطاب الفلسطيني "الرسمي"، ولا العربي الرسمي، ولا الدولي، عن أي شيء يتصل بالعدالة التاريخية، والحقوق الإنسانية الطبيعية، والمصلحة الوجودية للشعب الفلسطيني كما يتفق عليها الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، رغم تباين السياقات وكثرة الأضداد.