الدستور
حين يتواطأ العالم على إغلاق الصندوق
*************
إذا حدثتك النفس أنك قادرٌ على ما حوت أيدي الرجال فكذّب، وإن غلبتك النفس إلى تطلعٍ وصدقتها فيما تقول فجرّب، تجده عسيرًا في الثريا معلقًا، ومن يلتمس ما في المجرّة يعطب طرفة بن العبد.
في عام 1935، أجرى الفيزيائي النمساوي إرفين شرودنغر تجربة فكرية تهدف إلى تبسيط غرابة مفاهيم ميكانيكا الكم للعامة. أطلق عليها اسم «قطة شرودنغر»، وأصبحت لاحقًا من أشهر الأمثلة العلمية في هذا المجال.
تخيّل قطة موضوعة داخل صندوق مغلق، ومعها ذرة مشعة قد تتحلل أو لا تتحلل خلال الساعة القادمة. فإذا تحللت، تطلق غازًا سامًا يقتل القطة، وإن لم تتحلل، تبقى القطة على قيد الحياة.
لا أحد يعلم ما إذا كانت القطة حية أم ميتة إلا عند فتح الصندوق. ووفقًا لمنطق ميكانيكا الكم، تظل القطة – حتى تلك اللحظة – في حالة تراكب كمّي؛ أي أنها حية وميتة في الوقت نفسه.
يمكن بسهولة إسقاط هذه التجربة الغريبة على واقع غزة. فمنذ اثنين وعشرين شهرًا، تتعرض غزة للقصف والتجويع، وتُحرم من أساسيات الحياة كالكهرباء والماء والدواء. ومع ذلك، يتواطأ العالم على إبقاء الصندوق مغلقًا أمام وسائل الإعلام، حتى لا تُكشف الحقيقة الكاملة عمّا يجري فيها. يزعم الصهاينة، ومن خلفهم الأمريكيون، أن أهلنا في غزة بخير، فلا توجد إبادة ولا مجاعة، وأنهم يعيشون على «خيرات» ما يُسمّى مؤسسة غزة الإنسانية. بل يذهبون إلى القول إن القطة هي من اختارت القتال، وعليها أن تتحمل تبعات أفعالها.
لكن الحقيقة أن أطفالًا يُستشهدون في كل لحظة، جراء الجوع أو القصف، بل وحتى أثناء حصولهم على حصص الطعام من مؤسسة غزة الإنسانية. يُنتشلون من تحت الركام، وتُشيّع الأمهات جميع أبنائهن، إن كُتب لهن النجاة من الإبادة.
غزة، في نظر العالم، ليست ميتة تمامًا ولا حية تمامًا، بل معلّقة بين الحالتين. وهناك من يصوّر شعبها تارة كضحية، وتارة أخرى كجلاد. يُصرّ العالم على إبقاء الصندوق مغلقًا، ويعجز عن فتحه لنرى ما حلّ بـ»قطّتنا»، لأنه يعلم أن ما سنراه يفوق التصديق. فالعالم متواطئ مع الصهاينة، وساسته لا يرغبون في تحمّل تبعات ما جرى، لأنهم شركاء في الجريمة، شركاء في الإبادة.
قطة شرودنغر لا حول لها ولا قوة، على عكس أهلنا في غزة، الذين يقاتلون بإرادة من حديد، وبأيدٍ عارية، وسط صبر لا يُضاهى، ويفرضون على العالم أن يرى الإبادة التي يتعرضون لها، رغم محاولات التغاضي والصمت.
وأنا أقرأ عن هذه التجربة، غفَت عيني قليلًا، فوجدتني بين اليقظة والنوم، كأنني قطة شرودنغر. وفي ذلك الشرخ بين الحالتين، طاردتني صور الأطفال الجوعى.
في حلمي، رأيت جيوشًا عربية، وشعوبًا حيّة، وجنودًا أحرارًا من مختلف أنحاء العالم، يدخلون فلسطين المحتلة من كل الجهات: برًّا وبحرًا وجوًّا. يفرّ «جيش البامبرز» أمامهم هاربًا، ويدخلون غزة ومعهم آلاف الشاحنات المحمّلة بالغذاء والدواء والماء والمأوى. كل ذلك وسط دعم أممي واسع، بعد أن فشل الفيتو الأميركي، وطُرد المندوب الأميركي من جلسة مجلس الأمن.
لم يقتلوا أحدًا، بل أسروا ضباط جيش الاحتلال، واتجهوا مباشرة نحو حيفا، حيث ألقوا القبض على جميع قادة الإبادة الجماعية، وأحالوهم إلى محاكمات بتهمة ارتكاب جرائم إبادة. وتوالت الأنباء عن انتخابات في الغرب أفرزت قادة وطنيين حاسبوا من سبقهم، ممن تواطأوا ودعموا تلك المجازر.
تحررت فلسطين من البحر إلى النهر، وخُيّر اليهود بين البقاء في الدولة الجديدة التي سيعيش فيها الجميع بسلام وعدل، أو الرحيل. ورُصدت المليارات لتعويض أصحاب الأرض الأصليين عن الظلم التاريخي الذي وقع عليهم.
أنا على يقين، ومهما طال الزمن، ستخرج القطة من الصندوق، وسيشاهد العالم أهوال ما جرى. وسيدفع الصهاينة الثمن، هم وكل من تواطأ معهم، وسيتحقق حلمي... مهما طال الانتظار.