عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    20-Mar-2019

الطبيب السياسي عبدالرحمن شقير يتذكر: من أيام الطفولة واليفاعة في عمَّان

 

الراي - أبواب - وليد سليمان وُلد عبد الرحمن عمر شقير سنة 1917 في دمشق، تلقى العلوم العربية والفقهية في الكتاتيب ومسجد الغواص، ثم درَسَ في المدرسة الكاملية بالشاغور/ دمشق سنة 1925، ثم في مدرسة التطبيقات التابعة لمكتب عنبر بدمشق، ثم انتقل إلى الأردن، حيث واصل دراسته في مدرستَي البرمكي والعجلوني بعمّان، وأنهى الثانوية في مدرسة السلط الثانوية. ثم التحق بالجامعة السورية لدراسة الطب سنة 1933 ،وتخرج فيها سنة 1944.
عمل طبيباً؛ في عيادة خاصة بعمّان في أوائل الأربعينيات، ثم في سوريا لبعض الوقت، ثم افتتح عيادة في الأغوار الأردنية..
وشارك د. شقير في الحركة الوطنية معارضاً، واعتُقل مرات عدة، ولجأ إلى سوريا في فترات مختلفة. تنقّل بين سوريا، والعراق، والكويت، ولبنان، وبلغاريا، والولايات المتحدة، والصين، وألمانيا الشرقية، والاتحاد السوفياتي (قبل حلّه)، تبعاً لتقلبات الحالة السياسية.
عمل طبيباً لفترة من الزمن في الاتحاد السوفياتي، وحصل خلال اقامته على شهادة الاختصاص. عاد إلى عمّان سنة 1965 بعد صدور عفو عام في عهد حكومة وصفي التل، واستقر فيها حتى وفاته.
كان أول من رأسَ جبهة وطنية من قوى المعارضة السياسية في خمسينيات القرن العشرين، وقد نجحت في إيصاله مع عدد من أعضائها إلى مجلس النواب سنة 1956, وكان مرشحاً عن دائرة عمّان.
أصدر صحيفة «الجبهة» الأسبوعية، التي واصلت الصدور حتى سنة 1957.
كتب الشعر، ونشر عدداً من قصائده في صحيفة «الأخبار» الأسبوعية اللبنانية، باسمٍ مستعار هو «مناضل عربي.
نال جائزة الدكتور منيف الرزاز في مجال الدراسات والفكر من رابطة الكتّاب الأردنيين سنة .1992
كان عضواً في رابطة الكتّاب الأردنيين، ونقابة الأطباء الأردنيين.
توفِّي يوم 2005/12/28 في عمّان، ودُفن فيها.
مؤلفاته:
1» -من قاسيون إلى ربّة عمون: رحلة العمر»، سيرة، دار الأردن الجديد، عمّان، 1991.
2» -حقائق وأهداف من خمائل الشعر»، شعر، مطبعة التوفيق، عمّان، 1992.
3» -نفحات عطرة من شعر ونثر»، جمعية عمّال المطابع التعاونية، عمّان، 1997.
بيت خالي في جبل عمان
ومن خلال كتابه «رحلة العمر» يتذكر شقير:
لقد كان بيت خالي «خليل شقير» لا يتعدى غرفتين من الطين المغطى بسقف من القصب في شارع خرفان في جبل عمان!! وفي كل غرفة مدفأة مبنية من الطين, كانت تُعرف بالكانونة, يوقد فيها الحطب ونصطلي بنارها في فصل الشتاء.
اما المطبخ والمنافع فتفصلهما عن الغرفتين باحة المنزل، حيث نمت عريشة من العنب الفاخر، الذي كان يُكيّس- بأكياس ورقية–ليُحفظ ويؤخر قطفه الى فصل آخر.
وكان مالك الدار رجل شركسي له ولدان، وزوجته عرفت بأم حسن، وللشركسي أراض يزرعها قمحا وشعيرا، وله لباسه الخاص!! والذي لفت نظري آنذاك هو سرواله الضيق وأكمام سترته وحذاؤه الطويل المصنوع من كاوتشوك السيارات.
وعلى بُعدٍ قليل من الدار زريبة للبقر كانت تعرف بالياخور، وكنت أراقب عربة الشركسي كل صباح ومساء وهو يهوي بالسوط على ثيرانه، واذكر ذلك الخبز اللذيذ الذي كانت زوجته تعده في الطابون.. وكم يطيب أكله مع الشاي.
وحيث ان بيوت الشراكس لم تكن مجهزة بالماء، فقد كان السَّقاء يحضر الماء من احد الينابيع الممتدة على جانبي سيل عمان، حيث يُحفظ في البيوت في برميل للاستعمال، مع زير للشرب من الفخار بحيث يكون لكل غرفة زير.
قلم حبرجائزة من عرار!
وقد أدخلني خالي «خليل شقير» مدرسة البرمكي وهي المدرسة الوحيدة في عمان آنذاك, وكانت قريبة من دارنا وفيها ستة صفوف، قُبِلتُ في الصف الثالث الذي تركته في دمشق، ولعل من أحلى ذكرياتي آنذاك حصولي على جائزة كانت عبارة عن قلم حبرٍ أزرق، بعد إلقائي قصيدة أقول في مطلعها:
يا أُم ما شكل السماء
وما الضياء وما القمر!
بجمالها تتحدثون
ولا أرى منها الأثر!.
والطريف أن معلمي الذي قدم لي الجائزة آنذاك هو المرحوم مصطفى وهبي التل «عرار» شاعر الأردن، وكنت اصغر طالب في الصف سناً.
ولما ضاق البيت بنا بعد مجيء أمي من دمشق استأجر لنا خالي دارا أكثر سعة وأفضل بناء وأيسر خدمات بجانب سوق الخضار وسط البلد في عمان, احتوت ثلاث غرف وباحة في حارة تطل على الشارع الرئيسي المعروف بشارع الهاشمي.
زلزال عمان1927
ويذكر د. شقير أيضاَ: وفي عصر يومٍ من صيف عام 1927 كنت أتمشى في منطقة السيل في حارة ميرزا باشا, حيث بنى ميرزا باشا منزلا فخما، تحيط به حديقة رائعة مُسوّرة... وفجأة اهتزت الأرض تحت قدمي، وإذا بالحجارة تتساقط من سور تلك الحديقة التي غدت مع البيت فيما بعد مركزا تجاريا مهما في عمان.
فعدت أدراجي بسرعة إلى البيت, واذا بجداره قد تصدع وتساقطت الشمعدانات, وتناثر الزجاج في كل غرفة, وسيطر الهلع على جدتي وخالتي وزوجة خالي، ولم يكن خالي في الدار.
بعد فترة نزلت الى الساحة الرئيسية مقابل الجامع الحسيني، لأشاهد مئذنته وقد تساقطت كأنما بترت بالسيف، وشاهدت أيضا الأقواس الحجرية في سوق السكر التي تداعت على الأرض، وقد اصطبغت بالدماء بعدما صرعت شخصا عرفت فيما بعد انه سوري من آل الطباع، وقد ضرب الزلزال بعنف مدن عمان والسلط متسببا في تشقق الجدران وتكسر الزجاج في أماكن كثيرة منها.
وذات يومٍ مرضت والدتي وانتابتها الحمى..التي أعتقد أنها كانت مرض «التيفوئيد», وقد عالجها المرحوم الدكتور جميل التوتنجي طبيب الأمير عبداالله، وظل المرض يُتعِبُها لشهرين كاملين, وحدثت خلالهما اختلاطات قرّحت فخذيها وساقيها، بينما الألم يعصف بها في بطنها والحمى المرتفعة لا تفارقها، وبلغ من شدة الألم انها كانت تصرخ بين آن وآخر، مما دفع بجدتي لنقلي إلى غرفة أخرى لأنام فيها!.
تعلقت بالطب لمرض أمي ووفاتها!
وفي هزيع آخر ليلة من ليالي عام 1927 قضت أمي نحبها، ولم أدر بالخبر إلا في الصباح!!
حين شاهدت دموع جدتي وخالتي، وشيّعوا جثمانها إلى المقبرة، حيث دفن والدي من قبل, وكانت المقبرة تقع بجانب المدرج الروماني في جبل الجوفة.
وفي تلك الأجواء شعرت بفراغ رهيب بعد موتها.. خفف من وقعه حنان جدتي وخالتي وخالي ورعايتهم لي وبرّهم بي، وكان لغموض مرض أمي اكبر الأثر على نفسي, وعلى تقرير مجرى حياتي، فعزمت وأنا في الصف الخامس الابتدائي أن ادرس الطب لأعالج المرضى والفقراء بمعرفة عميقة وروح انسانية.
وقد كانت والدتي الحبيبة قد تنبأت لي قبل وفاتها بأشهر بمستقبل مشرق وضاء.
جسر خشبي على سيل عمان
بعد وفاة أمي بشهرين بدأت مرحلة جديدة في البيت والمدرسة، فقد انتقل خالي وجدتي إلى بيت جديد في أسفل جبل الجوفة، مشرف على سيل عمان، وهو اكبر من البيت السابق، ويسكن الى جواره المرحوم الشيخ «عبداالله سراج» رئيس وزراء الاردن في الفترة .1933 -1931 وعند الوصول الى البيت كان لا بد من اجتياز سيل عمان، ففي الصيف كنا نجتازه قفزا على حجارة كبيرة بدل الجسر، اما في الشتاء وحين تفيض المياه ويتحول الى نهر صغير، فكنا نضطر الى اجتيازه فوق جسر خشبي «كان بالقرب من مكتبة امانة العاصمة عمان» وبعيد نسبيا عن بيتنا، أما حين يخف منسوب الماء فيه فنجتازه خوضاً.
ومع انتقالي الى منطقة السيل، انتقلت دراستي الى مدرسة العجلوني، ذات الصفوف العليا، وأصبح عليّ أن أغدو وأروح من جبل الجوفة الى المدرسة في سفح جبل اللويبدة.
وكان بيتنا مبنياً من الاسمنت ومُطلاً على باحة نصفها مخصص كإسطبل يقطنه حمَّال اسمه «يوسف» ضعيف البصر ومتزوج من امرأة ساذجة جدا.. وكثيرا ما ترددتُ عليه وشاهدته يطعم حماره الذي يعيش من تشغيله، وكنت أكن له احتراما شديدا، ولما تركنا البيت لم اسمع عن أخباره شيئا.
وسيل عمان من معالم المدينة الرئيسية، فقد عشت على جنباته عدة أعوام, حيث أتصيد العصافير واستحم في عمق مياهه، وكنت أغزو بساتين الشراكسة المملوءة عنبا وتينا ورمانا وتوتا.. وفي تلك المنطقة كانت أشجار الصفصاف المنتشرة على حافتيه.
وفي غالب الأحيان كنت ارجع من غزواتي الصباحية والمسائية محملا بعناقيد العنب حلو المنظر، لذيذ المذاق, أوالرمان الناضج الذي يقطر حلاوة أو التين الكبير شهي الطعم، اما التوت فكنت اجمعه في سلة صغيرة ثم اغسله في الدار وأطعم جدتي، والى جانب هذه الغزوات كنت احمل صنارة واصطاد السمك من سيل عمان مع ابن خالي حامد والمرحوم زهير شقير.
حارة ميرزا باشا
وأذكر صداقة توطّدت بيني وبين شخص شامي اسمه محمد بوبس، مهنته التنجيد، فقد أعجِبَ بي حين رآني اتوضأ يوميا من الحنفية المقامة على طرف السيل في حارة ميرزا باشا، وارتبطتُ معه بمودة استمرت طوال العمر، وكان يتردد عليّ بين الحين والاخر، محملا بالهدايا اعجابا منه بتقواي وورعي، وقد أهداني ذات يوم طيرا يغرد بغناء شجي «كريم االله»، مع قفصه المزركش، وغذاؤه من حب القمبز، وكلما نقد طعام الطير زودني بغيره.
وفي كثير من الأحيان كنت اُلازم مسجد عمان الكبير- المسجد الحسيني- ولم تفتني خلال شهرين من أشهر رمضان لعامين متواليين صلاة التراويح بعد العشاء.. ويا لها من مفارقات مضحكة مستغربة بين الصلوات والغزوات!!.
في مدرسة العجلوني
وعن تلك الفترة لا بد من الحديث عن مدرستي الجديدة التي كانت اكبر وأوسع من
المدرسة السابقة، وهي مُلك المرحوم محمد علي العجلوني وكان ضابطا مشهورا.
وقت الاصطفاف وقبل الدخول الى الصفوف، وفي كل صباح كانت الأناشيد الوطنية تعلو
من أفواهنا, بحلاوتها الجياشة الزاخرة بالعواطف والأمل، حيث ما زالت اصداؤها تتردد في
ذهني الى اليوم, مع الموسيقى عذبة النغم عميقة المدلول, والتي كانت تحمل كلمات
فخري البارودي في قصيدته المشهورة:
«بلاد العرب اوطاني
من الشام لبغدان
ومن نجدٍ الى يمنٍ
الى مصرَ فتطوانِ».
ولعل من أمتع المشاهد التي علقت في ذهني من تلك الأيام موكب الأمير عبد االله الأول ابن الحسين أيام الجمع والأعياد، حين كان يأتي للصلاة في الجامع الحسيني، فقد كنت أترقب بلهفة وشوق قدومه راكبا سيارته وخلفه الشراكس على صهوات الخيول بألبستهم القوقازية المزركشة.. بينما تقف في الباحة الخارجية كوكبة من الحرس الأميري بموقف التأهب؛ وعلى رأسهم الضابط الشركسي سعيد اسحاقات, الذي كان يأمرهم بأخذ التحية للامير لدى دخوله وخروجه, بينما تعزف الفرقة الموسيقية النشيد الاميري.
في حي خرفان بجبل عمان
وكان خالي آنذاك يبني داراً له من الحجر في جبل عمان في حارة خرفان، وهو الحي المطل حاليا على شارع الملك طلال.
وقد كلفته الدار معظم ما تجمع لديه من أموال، فضاقت ذات يده وانعكس الأمر على البيت!! فاقتصر الطعام على الضروري منه، والملابس على ما استُعمل منها، واستطاع في نهاية المطاف، وبعد جهد وكد وعرق ان يبني ذلك البيت الحجري التراثي، وانتقلنا للسكن فيه، وهو بعد بلا قصارة او بلاط، وبجانبنا كان يسكن الصيدلاني عبدالرحيم جرادنة, وبجواره مدير المعارف السيد اديب وهبة، اما في الجانب المقابل للبيت فقد قطن صبري الطباع التاجر المعروف صديق الأمير عبداالله.
وأصبحت انطلق كل يوم من هذه الدار الى مدرسة العجلوني نصف الثانوية برفقة عبدالمنعم الرفاعي- الشاعر ورئيس الوزراء الأردني فيما بعد- الذي كان يسكن قريبا من حاووز جبل عمان، وكثيرا ما تسلقنا السلم الحديدي المقام على خزان المياه هناك وصعدنا إلى سطحه لنتفرج على عمان, التي لم تكن حدودها تتجاوز ذلك الخزان!! وحول عمان السهول المزروعة بالقمح والشعير والبقول.. وظللنا على هذا المنوال من الصحبة لعامين كاملين، ثم ذهب إلى بيروت وذهبت إلى السلط لإكمال دراستي هناك.
من الشخصيات البارزة والتي تعرفت عليها وعشت معها في «مدرسة السلط الثانوية» الشهيرة: الدكتور منيف الرزاز، وكان تلميذا يلفت النظر بشعره الطويل الاشقر المنسدل على رقبته من الخلف، جميل الوجه حاد الذكاء، وكان في صف أدنى من صفي، والسيد بهجت التلهوني وكان في صفي إلا انه كان أكبرنا سنا، وبقي في ذاكرتي انه كان يضطر إلى حلاقة ذقنه، وقد نشأ يتيما برعاية عمه الحاج خليل التلهوني, الذي بنى جامعا في شارع الملك حسين في عمان، ثم المرحوم سعد جمعة وكان أعلى مني بصفين، وقد اشتهر بذكائه ومقدرته على الكتابة والتعبير.
أما المناهج الدراسية فكانت تتبع النظام المصري، ولم اجد صعوبة في استيعابها والحفاظ على التفوق الدائم في موادها وفي كل مشاربها.
ولعل من ابرز من ترك تأثيرا في نفسي من أساتذتي الأستاذ بهاء العابودي، وكان مدرساً للغة العربية والدين، وقد بلغ من اعجابه بقدرتي في اللغة العربية انه كثيرا ما جاء بي الى الصف الثامن وطلب مني إعراب بعض الجُمل, التي استعصى اعرابها على الطلاب!! وهم أعلى من مستوى صفي بعامين، وقد امتاز بظله الخفيف ودعابته الحلوة وتقواه وورعه.
ثم الشيخ نديم الملاح، ولا أنسى قدرته على الإفحام وجرأته في تصحيح الأخطاء وعدم سكوته على ما لا يستقيم من الأمور، وكان مرجعا في علم الصرف، حاد اللسان مقذع الهجاء, وهو شاعر جيد وقد ارتبط بصداقة أدبية مع المرحوم الأمير عبداالله، وكنت اتابع مساجلات الأمير عبداالله بن الحسين (وهو مرجع كبير في الأدب والشعر والفقه واللغة) مع المرحوم شاعر الأردن مصطفى وهبي التل على صفحات «جريدة الاردن» المشهورة آنذاك.