"خبز العودة".. بوح إنساني مكثف في قصص قصيرة لأمل المشايخ
الغد-عزيزة علي
تعد المجموعة القصصية "خبز العودة"، الصادرة عن (الآن ناشرون وموزعون)، للقاصة والشاعرة أمل المشايخ، تجربة سردية مكثفة تنحاز إلى الإنسان وهمومه اليومية، وتستكشف بأسلوب شعري عميق أسئلة المعنى والذاكرة والعودة، عبر نصوص قصيرة تمزج بين الواقع والخيال، وتضيء زوايا خفية من المشهد الإنساني المعاصر.
قالت القاصة أمل المشايخ في حديثها لـ"الغد": "إن هذه المجموعة تضم نحو تسعين قصة قصيرة جدا، تجمع بين الهم الإنساني واللغة المكثفة، التي تتخذ طابعا شعريا في كثير من نصوصها".
وعن فكرة المجموعة وبداياتها، أشارت إلى أنها ولدت قبل سنوات، وكتبت قصصها واحدة بعد الأخرى "كحبات المطر". وأضافت أن الهم الإنساني، كما تطرحه المجموعة، يتجلى في معاناة الإنسان عبر مراحله العمرية المختلفة؛ فتارة يكون البطل شابا أو فتاة في سن المراهقة، وتارة أخرى أما، أو امرأة، أو رجلا مسنا، لتقف القصص عند تجليات النفس الإنسانية في ضعفها ونبلها معًا.
وترى المشايخ، أن هذه المجموعة تمثل "نحن جميعًا في لحظات الحب والحنين والفقد، ونحن نمضي في دروب الحياة ونتمنى ألا تعذبنا الأبواب الموصدة". وهي، في جوهرها، بوح الكاتبة مجسدا في مشاهد خاطفة وجمل قصيرة مشحونة بالانفعالات ونبض الحياة اليومية، تحولها الكاتبة إلى لحظات مضيئة وملهمة في التجربة الإنسانية عامة".
المجموعة تتكون من نصوص قصيرة جدا، كُتبت بروح شعرية وعمق إنساني يلامس تفاصيل الحياة اليومية، ويضيء عتمة المشهد الاجتماعي والإنساني المعاصر، متكئًا على رموز ميثولوجية وشعبية.
في هذه المجموعة تستعيد المشايخ حكاية الخبز الذي يهتدى به في دروب العودة، وتحيله إلى استعارة كبرى للضياع والبحث عن الملاذ، وللحاجة إلى خيط يقود الإنسان إلى معنى بيته الأول؛ الوطن، والذاكرة، والحضن الإنساني الواسع.
تمزج المشايخ في هذه المجموعة، بين الواقع والخيال لتقدم للقارئ تجربة مكثفة تخاطب الوجدان وتترك أثرًا عميقًا في الذاكرة، متناولةً الإنسان في أفراحه وخيباته، ونجاحاته وخساراته، وناسجةً خيطًا رفيعًا يعيد الناس إلى بيوتهم الأولى، وإلى الأمكنة التي تشكلت فيها بداياتهم.
تتنوع موضوعات القصص، غير أنها جميعا مشدودة إلى خيط إنساني واحد، يتمثل في الرغبة العميقة في استعادة المعنى، والعودة إلى الذات، والبحث عما يلم شتات الروح في عالم سريع ومتقلب.
وتتميز النصوص، إلى جانب ذلك، باعتمادها الاقتصاد اللغوي، والمفارقة، والدهشة، والالتقاطة المضيئة، والتكثيف العالي للحظات الإنسانية، مع انتقال سلس ومتمكن بين المشاهد.
وتكشف نصوص المجموعة "خبز العودة"، عن قدرة المؤلفة على تكثيف المشاهد ومنحها طاقة إيحائيّة لافتة، من خلال جُمل قصيرة ومشحونة بالانفعالات، وعبارات تفتح آفاقًا واسعة على التأويل.
تتراوح القصص بين سرد واقعي يلتقط المفارقة بذكاء، وآخر يميل إلى الفانتازيا والرمزية والمجاز، من دون أن يفقد حرارة التجربة ونبض القضايا اليومية، التي تحولها الكاتبة إلى نقاط مضيئة في التجربة الإنسانية عمومًا.
تتخيل المشايخ في قصة "الرجاء عدم الإزعاج"، العلاقة بين الأحياء والموتى، حيث تنقلب الأدوار في مشهد فانتازي يستيقظ فيه الموتى لزيارة ذويهم، حاملين الحلوى والكعك، قبل أن تعيدهم المدينة الباردة الصفراء إلى صمت قبورهم. وهنا تتجلى قدرة المؤلفة على توظيف الخيال في كشف مفارقات الواقع وتعرية قسوته.
وتقدم في قصة "ثلاثي الأبعاد"، مغامرة تستلهم ألعاب الواقع الافتراضي وتجاربها، لكنها تنفد في العمق إلى خوف إنساني متجذر من مواجهة الموت والمجهول، حيث تتشابك صور الطبيعة والتهديدات والمخلوقات الغريبة في تجربة معلقة بين الحلم واليقظة.
وفي هذه المجموعة تحضر الأسرة والعلاقات الإنسانيّة وتحولات القيم، في عدد كبير من القصص. ففي قصة "عشاء"، تكشف المشايخ بأسلوب ساخر كيف يجتمع أفراد الأسرة حول طاولة واحدة، فيما يقيم كل منهم في عالم افتراضيّ مختلف.
وفي قصة "عزاء"، فينصرف حديث النسوة عن الفقيد إلى الغلاء والقروض والأسعار، بينما تبقى الأم المفجوعة وحدها، منصتةً للآية الكريمة التي تُتلى على روح ابنها؛ لتعري الكاتبة هشاشة المسافة بين ما نظهره اجتماعيا وما نعيشه في العمق.
في قصة "جوع"، تتجاور صورتان متناقضتان لطفلين يعيشان في عالمين متباعدين: أحدهما يسأل عن "الجائزة"، بعد أن تناول العشاء مرتين في حي أنيق، والآخر في مخيم لجوء يطلب منه أن يترك بعض الطعام لأخيه الرضيع.
ومن خلال هذه المفارقة، تضع المؤلفة القارئ أمام حقيقة الفجوة الاجتماعيّة المتسعة، بلغة بسيطة ومباشرة وصادمة. تقوم مجموعة من قصص على رموز وجودية وفلسفية تتوغل في أسئلة النفس البشرية، ومعنى الطريق والاختيار والقلق الإنساني، فيما تلامس نصوص أخرى جماليات الطبيعة، وتعيد قراءتها بوصفها مرآةً للعاطفة البشرية.