عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    09-Jun-2024

"الجزيرة الاصطناعية" مستحقة لكيان مصطنع..!*علاء الدين أبو زينة

 الغد

قبل فترة وجيزة، قدم وزير طاقة الكيان، إيلي كوهين، اقتراحا لنظرائه الأوروبيين لحل القضية الفلسطينية: بناء جزيرة اصطناعية في البحر لتكون وطن الفلسطينيين. ومن معرفتنا بعقلية الصهاينة المتغطرسين، فإنه كان جادا جدا على الأغلب.
 
افترض هذا الكوهين أن الفلسطينيين هم الحمولة الفائضة على هذا الكوكب، الذين يبدو أنهم جاءوا في سفينة فضائية وغادرت ونسيتهم، ولذلك لا تتسع لهم اليابسة بما رُحبت. أما هو وجماعته، فـ"شعب" أصيل وطبيعي والعالَم ملزم بأن يجد لهم بقعة من اليابسة يتخذونها وطنا. والحل جاهز، يعطون الأرض التي عاش فيها الفلسطينيون لأجيال لا تعد لليهود، ويبنون للفلسطينيين (الشعب المختلق، على رأي غولدا مائير ونيوت غنغريتش) وطنا بديلا: جزيرة اصطناعية، يجب أن تُبنى من أموال العرب، ليعيشوا عليها ويكفوا عن صنع المشاكل.
 
بطبيعة الحال، يتناسب مفهوم "الجزيرة الاصطناعية" بشكل مثالي مع أفكار المستعمرين الصهاينة. فقد نشأت الصهيونية –تاريخيا- من السعي اليهودي للحصول على وطن، مدفوعا بقرون من الاضطهاد والنزوح في بقاع أوروبا الشرقية والغربية. وينظر العديد من الصهاينة إلى تأسيس الكيان الاستعماري الصهيوني في فلسطين في العام 1948 على أنه تحقيق لهذا الحلم. لكن إنشاء هذا "الوطن/ الدولة" الجديدة كليّا لم يجد غضاضة في أن يكون على حساب شعب آخر له وطن في الحقيقة، الشعب الفلسطيني، ودفعه إلى النزوح القسري ليعيش إما تحت الاحتلال أو في وضع لاجئ. وبذلك، لا بد من النظر إلى اقتراح جزيرة اصطناعية للفلسطينيين من خلال عدسة المفارقة التاريخية؛ إن نفس المجموعة التي أقامت دولتها على أرض شخص آخر تقترح الآن حلا سمجا متعاليا للسكان الأصليين أصحاب الأرض المشردين.‏
ثمة في الحقيقة الكثير من الأسباب لاعتبار جزيرة كوهين الاصطناعية حلا مثاليا جدا لمشكلته هو وأقاربه المستعمرين –بل وللكثير من مشاكل العالم جملة وتفصيلا. فأولا: ليست اليهودية عِرقا، وإنما هي دين فحسب، وأتباعها الحديثون ليسوا شعبا بكل التعريفات القاموسية والقانونية للشعب، وإنما هم أفراد من شعوب مختلفة جدا. وقبل 76 سنة فحسب، لم يكن هناك شيء اسمه "إسرائيل" ولا أحد اسمه "إسرائيلي"، وإنما هاتان المفردتان وما يرتبط بهما من مفاهيم يعنيان أن "الشعب اليهودي" و"الوطن اليهودي" عندما يعني فلسطين، مختلقتان بكل وضوح. وإذا كان هناك "شعب" طارئ يحتاج إلى العثور على بقعة في الكوكب يريد أن تكون وطنا له فإنه يحتاج، إما لجزيرة اصطناعية، أو إلى استيطان بقعة فارغة من الكوكب –وما أكثر هذه البقاع- وينشئ فيها كيانه من دون أخذ حيز أناس آخرين ومطالبتهم بأن "يدبروا حالهم" في مكان ما، ودفعهم إلى البحر حرفيا حسب كوهين.
من الواضح تماما أن ما تُسمى "دولة إسرائيل" هي جزيرة في محيط لا تنتمي إليه على أي مستوى. وهي تحيط نفسها بالأسوار والدفاعات، بالضبط لأنها تعرف أنها تتواجد في مكان ليس لها. وهي تعتمد العدوانية والوحشية للحفاظ على مشروعها لأنها تعرف أن للفلسطينيين وطنا تاريخيا ووطن أجداد في المنطقة التي تستعمرها اليوم، وأن ما تفعله هو إنكار حقوقهم ووجودهم التاريخيين ما دام ذلك ممكنا. ‏
واقعيا، تتطابق فكرة وضع الصهاينة المستعمرين على جزيرة اصطناعية مع موقف كيانهم الحالي المتمثل في الانعزالية والمروق عندما يتعلق الأمر بالقانون والمعايير الدولية. وبالتصرف من جانب واحد في أغلب الأحيان وتجاهل الإجماع الدولي، يتصرف الكيان بالفعل كجزيرة -تتمتع بالحكم الذاتي وتفرض قوانينها الخاصة في انفصال عن هياكل المساءلة العالمية. ولا يتوانى قادة الكيان من إعلان تصوراتهم عن كونهم غير بقية العالم، سواء باعتناق فكرة "التفوق اليهودي" على أساس التعاليم الدينية التي تعتبر الأغيار "حيوانات" و"خدما" لليهود، أو بلعب دور الضحية الوحيدة في التاريخ لتبرير الوحشية.
‏في تشرين الأول (أكتوبر) 2021، مزق مندوب الكيان لدى الأمم المتحدة، جلعاد إردان، تقريرا لـ"مجلس حقوق الإنسان" التابع للأمم المتحدة خلال خطاب، للإعراب عن رفض كيانه للانتقادات الدولية والتحيز المتصور ضده.‏ ثم عاد في أيار (مايو) إلى استخدام آلة تمزيق أوراق صغيرة أحضرها معه ليمزق نسخة من ميثاق الأمم المتحدة، تعبيرًا عن ازدرائه وازدراء كيانه لمعظم الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة. وقال للأعضاء: "أنتم تمزقون ميثاق الأمم المتحدة بأيديكم. عار عليكم". وهو يؤكد بذلك أن لكيانه "ميثاق" خاص غير الذي يفهمه ويعتمده معظم العالم.
بالإضافة إليه، اتهم بنيامين نتنياهو منذ زمن طويل الأمم المتحدة بما أسماه "العداء المهووس لإسرائيل"، ووصفها بأنها "مسرح للعبث". ثم وصف "مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في العام 2015 بأنه "هيئة منافقة ذات أغلبية أوتوماتيكية ضد إسرائيل". وكرر مسؤولو الكيان في الآونة الأخيرة اتهاماتهم لكل الدول التي تدعم بعض العدالة للفلسطينيين، وكذلك الهيئات الدولية مثل المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل العليا بأنها "تدعم الإرهاب" أو أنها نفسها "إرهابية" و"معادية للسامية".
وقبل يومين فقط، ‏عندما أدرج الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، جيش الكيان في قائمة الأطراف المسؤولة عن قتل الأطفال (المعروفة بـ"قائمة العار"، كان رد فعل المسؤولين هناك مثالا للانفصال عن العالم وازدرائه وتأكيدا على الانعزالية والاستعلاء. وزعم نتنياهو أن الأمم المتحدة بقرارها هذا "وضعت نفسها على القائمة السوداء للتاريخ". وقال في منشور على منصة "إكس"، أن "الجيش الإسرائيلي هو الأكثر أخلاقية في العالم".
كما عاد جلعاد أردان إلى مهاجمة الأمم المتحدة، ممثلة في أمينها العام غوتيريش، وزعم أن "مَن دخل القائمة السوداء هو غوتيريش الذي يشجع الإرهاب، وقراراته بدافع الكراهية لإسرائيل"، على حد تعبيره. وانضم إليه وزير خارجية الكيان، يسرائيل كاتس، الذي انتقد قرار غوتيريش، وقال: "سيذكر التاريخ الأمين العام للأمم المتحدة باعتباره أمينا عاما معاديا للسامية".
كل يوم، يضح أكثر وأكثر أن هذا الكيان الاستعماري يرسل نفسه إلى مزيد من العزلة، وأن العالم يتجه إلى الاعتراف بنشاز الكيان وقلة انسجامه مع الأعراف الإنسانية والقانونية –بل والحقائق التاريخية الطبيعية. ولأول مرة، لم يعد من المستحيل الهتاف بشعار "فلسطين من البحر إلى النهر" في معاقل النفوذ الصهيوني، بل أصبح يرفعه الكثير من المؤثرين والكُتاب والمعلقين، نتيجة لإدراك طبيعة نشوء الكيان الإجرامية وعدم شرعيته من البداية إلى النهاية.
‏يعكس اقتراح "الجزيرة الاصطناعية" المفارقة العميقة في التاريخ الصهيوني وسياسة الكيان. وهو يكشف عن الصلة بين الرواية الصهيونية لإنشاء "وطن لليهود"، بالضرورة على أرض وعلى حساب شعب آخر، وموقف الكيان المعاصر الذي يؤكد الانفصال عن المعايير والهيئات الدولية وانتقادها. ويشير كل السياق، منطقيا وتاريخيا، إلى أن فكرة الجزيرة الاصطناعية يمكن أن تمثل نمط الوجود المفضل للكيان، والذي يمكن تحقيقه له: الحكم الذاتي وتقرير المصير والعزلة عن النقد في جزيرة اصطناعية لا تؤذي أحدا ولا يؤذيها أحد. وإذا كان الكيان لا يعجبه العالم كله، مع كل الدلال الذي لقيه منه، ويرى أن كل الدول التي تؤيد شيئًا للفلسطينيين فاسدة ومجرمة، فليخرج من المؤسسات الدولية، ومن الجغرافيا "المعادية، ويقطن الجزيرة المصطنعة التي تناسب تماما "الشعب" المصطنع. (لا أحد من مؤيدي حق الكيان في الوجود مستعد لمنح اليهود شبرًا من أراضيه ليكون وطنا لهم). سيكون ذلك أفضل شيء ممكن للكيان الذي يعيش مع التهديد -ولجميع الأطراف وللعالم والإنسانية بالتأكيد، مقارنة بأي تصور آخر -مبتكر أو يمكن ابتكاره.