عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    17-Dec-2025

تسريب أميركي وغضب أوروبي*جمال الكشكي

 الغد

في ليلة باردة على ضفة الأطلسي، انفتح شق صغير في جدار الثقة، ثم اتسع حتى صار فجوة، ترى منها أوروبا وجهها المرتبك في مرآة واشنطن.
لم يكن التسريب مجرد وثيقة خرجت من درج مغلق، بل كان كاشفا عن طبقات خفية في العلاقة، طبقات تراكمت عليها ابتسامات الدبلوماسيين ووعود الشراكة، حتى صارت أشبه بطبقة ورقية تغطي جدارا متصدعا. 
 
 
حين ظهرت الوثيقة، بدا أن أوروبا تستيقظ على خوف مجهول، خوف يتسرب من ثنايا الكلمات الأميركية، ويتغلغل في أعماق قارة، ظنت أن التجارب القاسية صارت من الماضي. 
وكان المشهد أشبه بعودة التاريخ بعد طول غياب، بلا مقدمات، أو إنذار، أو وسطاء ينصحون بالهدوء، وثيقة تلمح إلى إعادة تشكيل القارة، وإلى سحب دول مؤثرة من تحت عباءة الاتحاد الأوروبي، وإلحاقها بدائرة النفوذ الأمريكي المباشر، كأن أوروبا مجرد مساحة قابلة لإعادة الرسم، أو رقعة تنتظر أيدي اللاعبين الكبار لتحريك قطعها.
المشهد إذن لم يكن سياسيا فقط، إنما كان هزة عميقة في قلب التصور الأوروبي للذات، في قلب عقيدة كامل، بنيت على أن القارة تجاوزت زمن الابتلاع والهيمنة، وأن مستقبلها ملك يديها. 
وما أثار الفزع أكثر هو اللغة التي حملتها الوثيقة، لغة مشتعلة بنبرة قريبة من خطب الحملات الانتخابية، لغة ترى أن عظمة أوروبا لن تعود إلا إذا انكمشت داخل حدودها القومية، وأن الهويات التقليدية تحتاج حماية من رياح العولمة، وأن الاتحاد الأوروبي مجرد قيد ثقيل على قرارات الدول.
جاءت اللغة صادمة، لأنها تنطق بما يقوله اليمين الشعبوي منذ سنوات، وكل ما كان ينظر إليه كتهديد داخلي صار الآن موثقا في خطاب صادر من الحليف الأكبر. 
أوروبا شعرت كأن يدا خارجية تعيد ترتيب غرف البيت، من دون إذن أهل البيت. 
وفي العواصم الكبرى، ظهر صمت يشبه الارتباك، صمت يسبق الانفجار عادة، برلين، التي بنت وجودها على ثقة راسخة في فكرة التحالف، وجدت نفسها أمام سؤال مرعب عن معنى الاعتماد على قوة، لا تخبرك بما تنوي فعله بك.
باريس شعرت أن العمود الفقري للمشروع الأوروبي تلقى طعنة من داخل الخيمة نفسها، وأن الخطر لم يعد يأتي من موسكو فقط، إنما من عمق العلاقة التي ظنتها ثابتة.
وارسو، التي عاشت زمنا طويلا تحت ظل الهيمنة الشرقية، شعرت أن ظلا آخر يقترب، أكثر دهاء، وأقل وضوحا، ظل يطلب الولاء على حساب القارة كلها.
ولم يكن الغضب مجرد رد فعل سياسي،  كان ردا نفسيا يعكس خوفا جمعيا، راكمته أوروبا عبر الذاكرة الطويلة للحروب، فالقارة التي خرجت من حربين عالميتين، ومن رماد المحرقة، بنت هوية كاملة على فكرة تجاوز ماضيها الدموي، وهوية تتكئ على إنسانية مشتركة، تجعل من الاتحاد أكثر من مجرد اتفاق اقتصادي.
لذلك كان التسريب أشبه بصفعة تعيد أوروبا إلى لحظة ما قبل التنوير، لحظة تشعر فيها بأن كل شيء قابل للانهيار، وأن الحضارة التي كانت تتباهى بقيمها تقف الآن في مواجهة شبح زوال بطيء. 
يتعاظم القلق حين تمتزج الهواجس الأمنية بمخاوف الهوية، إذ تكتشف أوروبا أن الخطر الذي تخشاه لم يعد يطل فقط عبر الحدود الروسية، إنما ينهض من داخل الجسد الأوروبي نفسه، من انقسامات تحركها خطابات الهوية، ومن صعود قوى تعيد إنتاج الماضي بطرق جديدة.
وتدرك القارة أن خصومها لا ينتظرون فرصة أكبر من لحظة كهذه، لحظة تتشقق فيها الثقة بين واشنطن وبروكسل، وتنغلق فيها العواصم على مخاوفها الداخلية، وتتفكك معها القدرة على التعامل مع أزمات الشرق الأوسط، والبحر الأحمر، والبحر الأسود. 
ومع كل هذا، يبدو أن السؤال الأكبر يدور حول المعنى، المعنى العميق لوجود أوروبا في عالم يتغير بسرعة غير مسبوقة.
هل تستطيع القارة أن تكون لاعبا مستقلا يملك قراره، أم ستظل ساحة تعاد فيها صياغة التحالفات من دون مشاركتها في القرار؟ 
وهل يملك الاتحاد الأوروبي القدرة على تحويل الصدمة إلى فرصة لإعادة بناء الثقة الداخلية، أم أن المشروع القاري بلغ مرحلة الشيخوخة التي لا دواء لها.
وفي عمق هذا الاضطراب، يطل شعور غامض يشبه الإدراك المتأخر، إدراك بأن السلام الذي عاشته أوروبا طوال ثمانين عاما كان استثناء، وأن الرفاهية التي أغرت الأجيال بالخروج من السياسة كانت سحابة عابرة، وأن الزمن الجديد يقترب بأسئلته الصعبة، زمن يعيد البشرية إلى قواعد القوة، ويعيد القارة إلى اختبارها الأول: هل تستطيع أن تعيش بدون مظلة الحماية الأميركية؟ وهل تملك الإرادة لتبني سياسة خارجية تخصها وحدها؟
تقف أوروبا اليوم أمام نفسها، أمام مرآة لا ترحم، وتعرف أن الطريق إلى المستقبل لن يكون هادئا، وأن صدع الثقة مع واشنطن ليس مجرد حادث عابر، إنما جزء من تحولات كبرى في موازين العالم، وهي تدرك أن عليها أن تختار بين أن تتحول إلى ملعب تدور فوقه الألعاب الكبرى، أو أن تستعيد دور اللاعب الذي يصنع خطواته، ولا ينتظرها من قوة كانت حليفة.