هل الكذب ملح الرجال.. وهل يوجد واحد في العالم لم يكذب؟*حسني عايش
الغد
في هذا العالم السريع الإيقاع صارت الإثارة مطلوبة، وبخاصة الإثارة الناجمة عن الكذب كما يفيد العالم السلوكي السويدي الشهير ثوماس إركسون في كتاب عن الكذب والكذابين المحيطين بك 2024 م.
بالكذب سواء أكان أبيض أو قاتماً يضيف الكذابون بعض البهار للحياة اليومية، ولمجرد الإثارة فقط. ولكثرة الكذب في المجتمع السريع الايقاع أصبحت الإثارة الناجمة عن عدم قول الحقيقة أعظم منها في أي وقت مضى. لقد أصبح الكذب المَرَضي والمنبلة (MANIPULATION) والخداع عناصر عامة في التفاعلات بين الناس. لقد بينت البحوث في موضوع الكذب أنه قلما يوجد واحد/ة في العالم لم يكذب مطلقاً، فما هي أسباب الكذب؟
لقد ذكر أركسون تسعة أسباب للكذب وهي:
(1) تكذب لحماية نفسك. (2) تكذب للمحافظة على علاقاتك. (3) تكذب لتكسب. (4) تكذب لتجنب الإحراج. (5) تكذب لتُقبل. (6) تكذب للمحافظة على وجاهتك. (7) تكذب لاكتساب القوة والسيطرة. (8) تكذب لخوفك من التداعيات. (9) تكذب بحكم العادة.
يمكن إضافة أسباب أخرى متضمنة في تلك الأسباب مثل كذبك للدفاع عن نفسك أو لتجنب نزاع ما، أو للنجاة، أو لإثارة إعجاب الآخرين، أو للمحافظة على سر ما، أو تكذب بسبب الحسد أو الغيرة، أو لحماية مشاعر ناس يهمونك، أو لجعلهم يشعرون بالأمن أو بالسعادة (كما في الكذب الأبيض، ولأن الصدق في بعض الأحيان مؤلم جداً...).
أما الكذب في الأخبار أو بعرضها على نحو خادع لتضليل المستقبلِين (بكسر الياء) وبحيث لا يستطيعون التمييز بين الحقيقة والكذب فحدث عنه ولا حرج. ولعله لهذا السبب يعزف الكثير من الناس من مشاهدة نشرات الأخبار – وتعليقات « الخبراء عليها».
اعلم أن الذين يسيطرون «خوارزمياً» على وسائط التواصل الاجتماعي يعرفون كيف يتلاعبون بالناس، ولا تهمهم آثار الميديا السلبية عليهم. إنهم لا يهتمون بأي تداعيات لأكاذيبهم ما داموا من ذلك للمال يكسبون.
تعرِّضنا وسائط التواصل الاجتماعي يومياً إلى طوفان من الأخبار والمعلومات الكاذبة. لقد استغلّ كثير من الأفراد والمؤسسات قوة الفبركة لنشر قصص وأخبار وفيديوهات بصرية أو سمعية ليخدعوا الناس ويستغلوا الرأي العام.
إن تفشي الأخبار والمعلومات الزائفة بنشر ما هو غير حقيقي، أي لأكاذيب تتحول بدورها إلى قصص ونظريات مؤامرة مصممة لدعم تحيزنا لأجندة ما. إنها تستغل حب الاستطلاع عند البشر لتلعب بعواطفهم وقيمهم ليضغطوا على كليك (CLICK) أو على لايك أو على شير (SHARE). والأنباء الزائفة عن موت واحد مشهور أو عن فضيحة سياسية تؤدي إلى الجدل والخلاف.
تذكر أنه مهما كانت معتقداتك السياسية قوية، فإنه يجب عليك أن تفترض وأنت مطمئن أن حزبك الذي تؤيده يلوي عنق الحقيقة بين الحين والآخر والحكومة أيضاً.
وتذكر أيضاً أن هناك ما يشبه المزارع أو المصانع التي لا تشتغل سوى بالدعاية التي تبثها كأخبار لإقناعك بكذا وكذا، ولتشكيل الرأي العام مع كذا أو ضد كذا.
المثير للاستغراب أن الناس الذين يعتمدون العلم في تكوين آرائهم مستعدون تماماً لتجنب الدليل العلمي عندما يتعلق الأمر بمعتقداتهم وآرائهم الخاصة، لأن عواطفهم ومصالحهم تؤثر في مواقفهم، وكأنهم لحظتها يملكون ذكاء لا يزيد على نمرة أحذيتهم، وليسوا بشراً عقلانيين.
أي شخص ميال إلى موقف معين أو إلى رأي معين، يمكن أن يغريه ذلك بتشويه الإحصاءات أو بعرضها انتقائياً. يحدث هذا عندما تكون الأيديولوجيا أهم من الحقيقة.
الإغراء بعدم قول الحقيقة له تداعيات بعيدة جداً فالأكاذيب البيضاء التي تبدو غير ضارة شائعة في حياتنا اليومية، وكثير منها ناتج عن الخوف من المواجهة، أو من عدم الرغبة في عدم التسبب في الازعاج أو القلق أو المشكلة، ومع أن النوايا قد تكون حسنة إلا أن تداعياتها قد تكون سيئة، وقد تعيق التفاهم في المدى الطويل.
نحن بحاجة إلى إعادة معايرة (Recalibration) حواسنا الفردية وقيمنا الاجتماعية الخاصة بالمسؤولية، فالطريق إلى الأمانة والصدق والإخلاص يبدأ من الوعي الذاتي والتفكير الناقد وتجنب الاستنتاجات المتسرعة والعاطفية، وتصديق الأكاذيب وإن تكررت كثيراً، فحسب وزير الدعاية النازي جوزيف جيوبلز: كرر الكذبة بما يكفي أن تصبح حقيقة».
إن الأمانة والصدق والإخلاص هي السياسة الأفضل للبقاء الناجح أي لأهميتها في إرساء الثقة والعلاقات الحسنة بين الناس. يجب أن نرفض ادعاء بعض الناس أنه لا أحد يمكن أن يعيش بدون خداع. إن قبول هذا الادعاء يعني أن كل واحد يجب أن يكذب وإن إلى حد ما. إن الناس –بوجه عام - لا يحبون الكذب والخداع والغش والمبالغة التي تنتهي إليهما، ولكنهم للأسف وسوء الخلف وسوء العلف يدخرونها لتحقيق أغراض إستراتيجية. تتأكد مصداقية الإنسان وإخلاصه من خلال التفاعلات الطويلة الأمد فبعدها يحكم عليه.
إن ثقافتنا تشكلنا وتؤثر في سلوكنا العام والخاص وفي كيفية عيشنا. وبمعنى آخر فإن للجغرافيا والتنشئة والتربية والتعليم والدساتير والقوانين والقضاء تأثيراً عميقاً على الناس، وهي التي تشكل شعورهم أو مواقفهم من الصدق والكذب، ففي الحكم الاستبدادي أو المطلق يكذب الناس بإطلاق أي طيلة الوقت.
قول الحقيقة/ الصدق والأمانة والإخلاص ضرورة لتنمية الشخصية، فبها نستطيع مواجهة مخاوفنا وضعفنا وأخطائنا والسيطرة عليها. وبهذا المعنى تصبح الحقيقة/ الصدق مصدراً للشفاء أو طريقة لصنع السلام مع أنفسنا ومع الناس من حولنا.
نعم، إن قول الحقيقة ليس سهلاً دائماً. إنه يتطلب الشجاعة، والوعي الذاتي، وتحمل المخاطر، وتكامل الشخصية. نعم ثانية، إنك يمكن أن تواجه النقد أو مواقف غير مريحة، ولكن ذلك يستحق التضحية.
يجب أن نفكر بالآثار البعيدة لأقوالنا وأفعالنا فحتى الأكاذيب الصغيرة يمكن أن تقضي على الثقة وتودي بالعلاقات مع الوقت. إن قول الحقيقة والتمسك بها جانب أساسي من الوجود الإنساني.