عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    16-Jun-2019

طعام صلاة حب* يمينة حمدي
العرب -
الشعور بالحزن وارد في حياة جميع البشر، لكن أصعب ما قد يواجهه الإنسان هو فراق شخص عزيز عليه، سواء بالموت أو بالانفصال، فقد يشعر البعض بأن عجلة الزمن قد توقفت وأن حياتهم قد أصبحت بلا معنى، الأمر الذي يتسبب في انهيار معنوياتهم تماما.
 
وفي العلاقات الزوجية طويلة الأمد، تتداخل أحيانا شخصيات الشريكين لا شعوريا لتصبح بمثابة الكيان الواحد، لذلك يعد فقدان الشريك بالنسبة للكثيرين، تجربة قاسية ومؤلمة جدا، قد تفقدهم الدافع للحياة.
 
وهذا أمر طبيعي، نظرا لأن جزءا كبيرا من هويتهم يستمدونه من الأشخاص الذين يحبونهم ويشعرون برابطة عاطفية قوية تجاههم، لذلك فأغلب الظن أنهم سيرون العالم من منظورهم، ويصبح من المستبعد مواصلة مشوار حياتهم من دونهم.
 
وتجربة الفقد صعبة جدا، والشواهد الحياتية تؤكد أن معظم الثكلى قد عجزوا عن التحكم في مشاعرهم المضطربة، بسبب الصدمة القاسية، خصوصا عندما يكرس هؤلاء أنفسهم للطرف الثاني وتقل اتصالاتهم بالأقارب والأصدقاء وتكون أنشطتهم الاجتماعية محدودة، لذا فإنهم قد يشعرون بأن حياتهم انتهت. أما الأشخاص الذين يعيشون في دائرة عائلية واجتماعية نشطة فحالهم ربما يكون أفضل بكثير.
 
يقول الدكتور الأميركي إدوارد ت. كريغان “باعتباري طبيبا متخصصا في علاج الأورام، أتعامل يوميا مع أناس مصابين بالسرطان ويواجهون الموت والاحتضار، وأرى كل يوم أيضا عائلات تقاوم النهاية الحتمية للحياة، وهذه العائلات لم تسعد لحالة انهيار العواطف التي قد تصيبهم عندما تحين اللحظة الأخيرة، حتى لو كانت تعلم أن الموت على وشك الحدوث”.
 
يمكننا أيضا أن نستخلص من خلال بعض الأبحاث أن الطلاق غير المرغوب فيه بالنسبة لبعض الأزواج، كثيرا ما يؤثر على شخصياتهم من ناحية الانفتاح على الآخرين. وربما يكون من الحكمة توقّع مثل هذا التأثير بعد حدوث الانفصال، ومحاولة إقامة صداقات وعلاقات اجتماعية أثناء الزواج تحول دون إصابتهم بالاكتئاب أو فقدان الأمل والانهيار النفسي عند حدوث الطلاق لأي سبب من الأسباب.
 
مهما اختلفت أسباب الصدمات العاطفية، فإن ردة الفعل تكون أحيانا عنيفة، وقد تتحول إلى يأس وإحباط وإحساس بالعجز والقلق، بل البعض يمكن أن يساورهم الشعور بكراهية الذات ونكرانها، وهناك من يصل بهم الحال إلى حد العزلة والانطواء على الذات، وقد يفكرون في الانتحار.
 
لا أحد بالطبع بإمكانه العودة بالزمن إلى الوراء لتغيير مجرى حياته، لكن هناك طرق علاجية عديدة لمساعدة المصابين بالصدمات العاطفية على التغلب على آلامهم النفسية، وربما كان الدواء لقلب كسير أو عقل تائه، يكمن في شكل من أشكال الإلهاء والتسلية المختلفة، أو في البحث عن أهداف أخرى في الحياة تساعد على تضميد الجروح العاطفية.
 
لعل أهم وصفة يمكن استخلاصها من تجربة الكاتبة الأميركية إليزابيث غيلبرت، التي لم تستسلم لمصاعب الحياة ولم تشل عزيمتها الكبوات القاسية والمتتالية التي تعرضت لها.
 
رغم أن غيلبرت تحمل شهادة في اختصاص علمِ السياسة، إلا أن ذلك لم يساعدها على إيجاد عمل مناسب، فعملت كطباخة ونادلة في بعض المطاعم.
 
عاشت غيلبرت أيضا تجربة زواج فاشلة ولكنها استطاعت أن تلملم جراحها بنفسها، بعد أن أدركت أن الحياة لا تتكون فقط من قصص النجاح والسعادة والحبور، بل في أكثر الأوقات من الإخفاق الذي أعادها إلى المسار الصحيح مرة أخرى، وبتعطش للحياة وحافز أكبر.
 
وجدت غيلبرت مساحة للتنفيس عن إحباطاتها وانكساراتها من الطلاق الذي حفر الحزن في داخلها في الكتابة أولا، ثم عزمت على القيام برحلة حول العالم لمدة عام، عاشت خلالها تجارب مختلفة، فاكتشفت في إيطاليا معنى المتعة الموجودة في الطعام وتعلمت كيف تستمتع به تماما كما يفعل الإيطاليون، مخالفة بذلك نمط حياتها، وقد يكون ذلك أمرا مقصودا وهدفه الحفاظ على قوة إرادتها تجاه أهداف أكبر.
 
تقول غيلبرت في روايتها (طعام، صلاة، حب) “جلب لي الطعام متعة تفوق الوصف، مع أنه في غاية البساطة، أمضيت بضع ساعات قد لا تكون ذات أهمية بالنسبة للآخرين ولكنني سأعتبرها دوما من بين أسعد اللحظات في حياتي…”.
 
ثم انتقلت غيلبرت إلى الهند لتعيش تجربة التطهير الروحي، وهناك قامت بتنظيف حمامات المعابد القديمة وأنجزت أعمالا وضيعة لم تعتد عليها من قبل، وبالرغم من أن ذلك لم يشعرها بتغيير كبير في حياتها، لكنها تعلمت دروسا وعِبَرا، جعلتها أكثر مرونة في مواجهة مصاعب الحياة، والأهم من هذا كله أنها أصبحت أكثر تصالحا مع ذاتها، وتعلمت الإنصات إلى صوتها الداخلي الذي لطالما تجاهلته.
 
تقول غيلبرت “إن كان بوسع كائن بشري واحد منهار ومحدود مثلي أن يشعر بالقليل وحسب من الغفران والتسامح إزاء نفسه، فما عليك سوى أن تتخيل كم يمكن لله برحمته الواسعة والأبدية أن يغفر ويسامح”.
 
في المحطة الأخيرة من الرحلة سافرت غيلبرت إلى إندونيسيا، أين التقت برجل فلبيني في بالي، وعاشت مرحلة جديدة من الحب.
 
تذكرتنا صاحبة كتاب (طعام..صلاة..حب) بضرورة بذل “مجهود جبار للمضي قدما في طريق السعادة وكي نبقى طافين في القمة رغم جميع المحن”.
 
أما نحن، فنذكر الأشخاص الذين يعانون من إحساس بالفقد، بأن الموت هو الحقيقة الوحيدة في الحياة، وتقبله يعني الإيمان بإرادة الله وقدره المحتوم.