عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    07-Jul-2025

صراع الأديان (2): هل الدين "أفيون الشعوب" أم "محرك الثورات" ؟*د. محمد العايدي

 الغد

نلاحظ تناقضاً كبيراً بين من يقول إن: "الدين أفيون الشعوب" وبعض من يراه بأنه: "محرك الثورات"، فما بين هذين الوصفين يبدو وكأن الدين لا يملك مضمونه الذاتي، ولا رسالته المستقلة، لنتأمل كيف يمكن للمعنى السماوي أن يختطف، وللخطاب الإلهي أن يدنّس، بحيث يختزل في كونه أداة بيد من يوظفونه حسب مصالحهم وأهوائهم، ومن يتأمل في هذا التناقض التام بين الحكمين يدرك تماماً أن المشكلة ليست في الدين ذاته، بل في التصور الذي انطلقوا منه، والغاية التي يتعاملون فيها مع الدين، فلو كانوا ينظرون إليه على أنه رسالة سماوية تحتوي على منظومة أخلاقية وقيمية ذاتية مستقلة، لما وقع هذا التباين في الحكم على الدين بحكمين متناقضين.
 
 
ولذا تجدهم إن أرادوا تعبئة الجماهير وإثارتها لتحقيق أهداف ومصالح خاصة، صوروا الدين وكأنه قائم على الثورات، والتمرد على النظم والقوانين، فاختزلوا الدين في كونه ثورة وثأراً ودماء، مستغلين بعض الحوادث التاريخية التي شكلت منعطفاً خطيراً في تاريخ الأمة من أجل إثارة المشاعر، وتأجيج الصراعات الطائفية والدينية، وإشعال الفوضى، فيجعلون مثلاً من استشهاد الإمام الحسين بن علي عليه السلام شرعنة للثورة على كل واقع، معتقدين أن الدّين لا يعاد إلا بمثل هذه الثورات، مع أن المتأمل في حال خروجه عليه السلام إلى العراق يعلم أنه ما خرج إلا مصلحاً عظيماً لواقع مرير وفوضى كانت تعاني منها الأمة، وليس ثائراً.
 
وفي الجانب الآخر تجد بعضهم يصور الدين بأنه يدعو إلى الاستسلام والخنوع، ليصبح أفيوناً للشعوب حين يتحول من طاقة لتحرير الذات والتسلح بالإرادة التي لا تهزم ولا تعرف اليأس، إلى أداة للتخدير والاستسلام والهروب من الواقع، إن مشكلتنا في الخطاب الديني الذي لا يعكس جوهر الدين بل يشوهه، فعندما يطلب من الناس الرضى بالفقر دون مكافحته بالعمل والاجتهاد فهو أفيون، وعندما يصبح الدين أداة لتبرير الظلم دون الدعوة إلى إقامة العدل وإحقاق الحق فهو أفيون، وحين يطلب من الناس الرضى بتخلف مجتمعاتهم دون رفع هذا التخلف بالعلم والمعرفة فهو أفيون، ففي كل هذه السياقات يتحول الدين إلى وسيلة لتثبيت البؤس الاجتماعي، بدلاً من أن يكون محركاً للعدالة والإصلاح في المجتمعات.
هكذا يصبح الدين عند أصحاب التصورين كعجينة يشكلونها كما يشاؤون، فيكون مخدراً حين تكون مصلحتهم في استمرار الأوضاع على حالها ولا يسعون للإصلاح والتغيير، ووقوداً للفوضى حين تكون مصلحتهم في قلب الطاولة على الواقع الذي لا يناسب مصالحهم وأطماعهم، فيحرقون به المجتمعات ولا يعمرونها، في كلتا الحالتين لا يتعاملون مع الدين كقيمة ذاتية، بل كأداة تُستدعى عند الحاجة لتوظيفه في خدمة مشاريعهم الخاصة.
والحق أن الدين ليس أفيوناً للشعوب يميت إرادتها، ولا وقوداً يلهب الفوضى ويدمر المجتمعات، بل الدين رسالة متوازنة تحرك وعي الناس نحو الإصلاح، وتهذب نزعاتهم الثورية حتى لا تتحول إلى خراب ودمار، كما تهذب ميولهم للرضا بحيث لا ينقلب إلى ذلّ واستكانة.
 إن كلا الوصفين "أفيون الشعوب" و"محرك الثورات" يعكس أزمة في فهم الدين، وأزمة في نوايا من يطلقون هذه الأحكام عليه، فالدين ليس أداة بيد أحد، بل هو فوق الأهواء يحمل منظومة إصلاحية وأخلاقية متوازنة، تحفظ كرامة الإنسان، وتدعوه لتغيير واقعه المظلم لكن بوعي ومسؤولية.
ومن هنا يمكن القول إن الدّين لا يدعو لقتل إرادة الشعوب، بل يدعوها إلى العمل والإنجاز والتحدي والتخطي لكل العقبات، ولا يأمر بالفوضى التي قد تحرق حاضرهم ومستقبلهم، بل هو ميزان دقيق بين الخضوع المذل، والفوضى المدمرة، فقد جاء الدين ليعلم الإنسان أن يغير بوعي، ويصلح بسلام، ويطالب بصدق.
ولنتذكر دائماً أن الدين لا يختزل في شعارات الثورة ولا يمكن أن يكون رسالة للثورة، ولا يختصر في مواعظ الاستسلام، والرضى بالظلم، بل الدين رسالة عدل ورحمة وإصلاح، لا أفيون ولا نار.