عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    15-Sep-2025

حينما تتحول المآسي لمحتوى.. هل يسبق القانون بالردع أم بالأخلاق؟

 الغد- تغريد السعايدة

 صورة "سيلفي" مع شخص توفي للتو، الدموع تنهمر من عيني المصورة، وفيديو آخر يجتاح مواقع التواصل الاجتماعي لممرضة تقوم بتصوير مقطع مطول لها خلال تحضيرها لـ"تكفين متوفى ليتسنى لأهله دفنه". بينما آخر يصور جده الذي أصابه المرض وبدأ بالنسيان والحديث بطريقة غير واضحة، بهدف إضحاك أصدقائه أو متابعيه.
 
 
مئات الآلاف من الفيديوهات تبث يوميا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مليئة بالأحداث العابرة، سواء كانت عادية أو فارقة في حياة البعض، غير أن الكاميرا المفتوحة دوما باتت وسيلة لملء الفراغ لدى البعض، ودافعا لتصوير أي شيء من أجل الحصول على متابعات ومشاهدات، حتى وإن كانت تلك المشاهد "غير منطقية أو مقبولة مجتمعيا".
ملايين التعليقات لاحقت تلك الممرضة التي تعمدت وضع هاتفها مقابل سرير المتوفى، وقامت بتصوير كل الخطوات التي نفذتها خلال "تكفينه". التعليقات طالبت الجهات المختصة بمعاقبة الممرضة، وأن تكون العقوبة علنية، إذ إنها "كشفت عن متوفى من دون إذن أفراد عائلته أو معرفتهم".
ورغم اعتذار الممرضة لاحقا وإطلاقها الكثير من المبررات، إلا أن ذلك لم يمنع من إلحاق عقوبة قانونية بها، بيد أن العقوبة والملاحقة الاجتماعية كانتا الأشد وطأة عليها، الأمر الذي دفع الكثيرين للمطالبة بوجود عقوبات شديدة ورادعة تنظم المحتوى عبر مواقع التواصل الاجتماعي وتحمي متابعيه ورواده من تلك المشاهد القاسية.
خبير أمن المعلومات والجرائم الإلكترونية الدكتور عمران سالم، يصف ما يحدث في مثل هذه الحالات، في حديثه لـ"الغد"، بفوضى أخلاقية في المحتوى الرقمي يسودها لغط بين البحث عن الشهرة وغياب الضوابط، ويقول "لم يعد المحتوى الرقمي مجرد وسيلة للتسلية أو التثقيف، بل تحول إلى ساحة مفتوحة يتنافس فيها الأفراد على تحقيق أكبر قدر من المشاهدات والإعجابات".
وهذا التنافس المحموم ولد نوعا خطيرا من الفوضى الأخلاقية؛ حيث يتم استغلال براءة الأطفال، وضعف كبار السن، وحرمة المهنة، وحتى خصوصية الموت، من أجل صناعة مقاطع "ترند" لا تتجاوز مدتها ثواني معدودة، لكنها تترك أثرا نفسيا وأخلاقيا عميقا.
ووفق سالم، فإن أبشع صور هذا الاستغلال تظهر في استهداف الفئات الأكثر ضعفا في المجتمع، من كبار السن والأطفال والمرضى، فنحن نشاهد اليوم مقاطع فيديو تظهر فيها تصرفات غريبة لجد أو جدة مسنة تعاني من ألزهايمر، يتم تصويرها ونشرها على أنها "مواقف مضحكة"، من دون أي اعتبار للحرج والأذى النفسي الذي قد يسببه هذا الفعل للشخص نفسه أو لأفراد عائلته.
ويقول المتابع أيمن عبد السميع، حول هذه الحادثة، إن هذه الممرضة الشابة في بداية طريقها المهني، اجتهدت لكنها أخطأت، فداست من دون قصد على حرمة ميت بجهل وبحماسة زائدة، بيد أن الخطأ لا يبرر، لكن لا بد أن يوضع في سياقه، قلة الخبرة، الصغر، والاندفاع.
وقبل أيام قليلة، تفاعل الملايين من نشطاء السوشال ميديا مع فيديو قام بنشره أحد أطباء الولادة في مصر، وهو يقلد رقصة "ترند" انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إذ إن الغريب في ذلك هو الرقص مع رضيعة لم يتجاوز عمرها دقائق، خلال خروجه من غرفة الولادة.
تباينت وجهات النظر حول ذلك الفيديو، فمنهم من قالوا إنه "موقف لطيف"، فيما أكد آخرون أنه موقف ينافي أخلاقيات المهنة، ويعرض حياة المولودة للخطر، كونه كان يحمل الطفلة من "رقبتها"، ما رآه البعض "استخفافا بالحالة الصحية لها".
إلا أن رؤى جهاد، تتحدث عن أحد المشاهد "القاسية" التي لم تستطع نسيانها منذ فترة، على حد تعبيرها، والذي يتمثل بتصوير أحد الآباء لطفلته وهو يعاقبها بكل عنف، بهدف إغاظة والدتها المنفصلة عنه، الأمر الذي أدى فيما بعد إلى وفاة الطفلة ذات الثلاثة أعوام.
وتقول رؤى إنها ليست مضطرة، على حد تعبيرها، لأن تشاهد مثل تلك المقاطع التي تمسي "ترند" وتقع أمام عينيها عنوة، وتطالب بسن قوانين شديدة العقوبة لكل من يقوم بتصوير مشهد مؤلم سواء إيذاء، مشاعر حزن، أو حتى لشخص لا يعي ما يتحدث، ومن ثم بثها عبر الحسابات الشخصية، وذلك من خلال قوانين صارمة جدا تحمي المجتمع من "الاستهانة بتلك المشاهد وأنها فقط مواقف عادية".
وبعد حدوث العديد من ردود الفعل الغاضبة في المجتمعات، قامت العديد من الدول بسن قوانين جديدة "بهدف تنظيم المجال الرقمي يشمل منصات التواصل الاجتماعي، وذلك لمواجهة التحديات والمخاطر المتزايدة المرتبطة بهذا الفضاء"، كما في المغرب، التي حدث فيها عدد من قضايا الرأي العام، والمتعلقة بالمضمون ذاته.
كل ما يحدث من "فوضى أخلاقية"، وفق سالم، لا بد أن يكون لها آثار خطيرة، خاصة إذا استمرت من دون ضوابط، حتى وإن كانت الحرية الشخصية حقا أساسيا، لكنها تنتهي عندما تبدأ في التعدي على حقوق الآخرين وكرامتهم، فالانتشار الواسع لمثل هذا المحتوى يثير الجدل ويتسبب بمشاكل أخلاقية، الأمر الذي يتطلب تدخلا جادا على مستويات عدة.
والأبعاد الخطيرة لهذه الفوضى، كما يقول عمران، أنها تسهم في "تطبيع الإساءة" مع تكرار هذه المشاهد، إذ يصبح المتابع أقل حساسية تجاه الانتهاك الأخلاقي، وكأن الأمر طبيعي أو "جزء من الترفيه"، عدا عن الضرر النفسي للضحايا، سواء كانوا مرضى أو أطفالا أو مسنين، وقد يعانون من آثار نفسية عميقة، مثل الإحراج أو انعدام الثقة أو فقدان الكرامة.
وتتفق الاختصاصية في الإرشاد النفسي التربوية الأسرية الدكتورة هنادي الجبالي مع سالم، بقولها "إن استغلال الضعفاء في المحتوى الرقمي يعد شهرة لحظية ويترك ندوبا طويلة، حيث في زمن السوشال ميديا، لم تعد الشهرة تحتاج إلى جهد أو موهبة حقيقية، بل مجرد مقطع قصير، ولو كان صادما أو مؤذيا، فهو كفيل ليصنع "ترند" يحصد ملايين المشاهدات، بيد أن المشكلة تكمن في أن هذه المقاطع تعتمد على استغلال الآخرين في لحظات ضعفهم، والأمثلة كثيرة على ذلك، وقد تكمن الخطورة هندما يأتي التصوير من داخل المؤسسات الطبية نفسها".
ومن ناحية التحليل النفسي للدوافع، تبين الجبالي أن البعض يلجأ لهذه الأفعال، بهدف الحاجة للاهتمام والاعتراف، وقد يشعر بعض الأشخاص أن قيمتهم مرتبطة بعدد الإعجابات والمشاهدات، فيضحون بكرامة الآخرين ليحصلوا على تصفيق افتراضي، بالإضافة إلى التفريغ عن الضغوط، وتوجيه القلق أو مشاعر النقص نحو طرف أضعف بدلا من مواجهة مشكلاتهم.
ومن الأسباب الأخرى أيضا، وفق الجبالي "تبلد الإحساس وفقدان التعاطف لتلك الفئة نتيجة تعرضهم لمقاطع صادمة جعلتهم يرون الألم مادة للضحك أو الترفيه، ومنهم من يعاني النرجسية وحب الظهور، والأهم ضعف الوازع الأخلاقي، إذ إن غياب التربية على احترام الكرامة الإنسانية يجعل الفرد يبرر لنفسه أن هذه مجرد "مزحة" أو "ترند"".
ومن الأضرار الأخرى، كذلك، لمثل تلك التصرفات غير المقبولة اجتماعيا وأخلاقيا، كما يقول سالم، بأنها قد تسيء للمهن التي يقوم بها أفرادها، خاصة تلك المهن الإنسانية، عدا عن تضليل المجتمع حول القيم الحقيقية للمجتمع، وغرس مفاهيم مغلوطة عن الشهرة والنجاح.
كما تبين الجبالي آثارا أخرى على الأفراد والمجتمع، ومنها الأذى النفسي المباشر للضحية، الذي يشعر بالخجل، الإهانة، فقدان الثقة بالنفس، والوصمة الاجتماعية، حيث ينظر الضحية نظرة سلبية أو ساخرة، ويصعب عليه مواجهة المجتمع أو الأقارب، بالإضافة إلى العزلة والاكتئاب، والانسحاب من التفاعل الاجتماعي، مما يزيد احتمالية إصابتهم بالاكتئاب أو اضطرابات القلق.
التأثير، كذلك، يظهر على المجتمع ككل، وفق الجبالي، وذلك من خلال "تطبيع السلوك غير الأخلاقي جرار التكرار للمشاهد، وتراجع القيم الإنسانية من مشاعر الرحمة والتعاطف التي تنخفض، وتستبدل بثقافة السخرية، والتنمر الذي يزداد "إلكترونيا"، كذلك، بسبب انتشار المقاطع، وقد سبب ذلك أيضا فقدان الثقة بالمؤسسات الإنسانية التي من المفترض أن تكون حامية للإنسان خلال لحظات ضعفه".
ويشدد سالم على أهمية أن يكون هناك تدخل رسمي ومجتمعي، فلم يعد الأمر شأنا فرديا يترك لضمير كل شخص؛ بل أصبح ضرورة ملحة أن يكون هناك "تشريعات قانونية تجرم تصوير المرضى أو المسنين أو الأطفال من دون موافقة واضحة، وتفرض عقوبات على من ينتهك الخصوصية أو يسيء استخدام منصات التواصل، ورقابة مهنية على المهن الإنسانية، وأن تتحمل المنصات الرقمية المسؤولية، كما في حذف المحتوى المسيء بسرعة، وعدم السماح بتحويله إلى مصدر دخل لصانعي المحتوى.
وهو ما تبينه الجبالي من ازدواج المسؤولية "رسمية وقانونية" بوضع قوانين تجرم استغلال الآخرين، والأهم، الانطلاق من داخل الأسرة والمدرسة، بزرع القيم والأخلاق والتعاطف، وتعليم الأبناء أسس التربية الرقمية الواعية، ووجود القدوة السليمة، والمراقبة للأبناء، وخلق مساحة حوار آمنة لهم.
كما توجه الجبالي نصيحة لصانعي المحتوى بأهمية "احترم الكرامة الإنسانية والتفكير بالنتائج قبل النشر، والبحث عن بدائل إيجابية لتحقيق الشهرة عبر الإبداع، التعليم، أو قصص ملهمة، بدلا من الإساءة، وتحمل المسؤولية، حيث إن ما ينشر يبقى لسنوات طويلة"، فيما يترك دور المجتمع في تعزيز الوعي العام بحملات ودعم المحتوى الإيجابي المبني على القيم الإنسانية، والتبليغ عن المحتوى المسيء بدلا من إعادة نشره، ودور المسؤولية الجماعية في حماية كبار السن والمرضى والأطفال.
ويختم سالم بقوله "إن ما نشهده اليوم من فوضى أخلاقية في المحتوى الرقمي ليس مجرد "ظاهرة عابرة"، بل ناقوس خطر يدعونا لمراجعة أنفسنا، والشهرة لا ينبغي أن تكون على حساب كرامة الإنسان، والمحتوى الحقيقي هو ما يضيف قيمة للمجتمع لا ما يثير الجدل الرخيص. وإننا بحاجة إلى التوازن بين حرية التعبير والالتزام الأخلاقي، حتى لا يتحول العالم الرقمي إلى ساحة استعراض على جثث القيم الإنسانية".
"الحرية الرقمية لا تعني الفوضى"، تقول الجبالي، وتصوير إنسان في لحظة ضعف ونشرها للضحك هو إساءة مضاعفة للضحية أولا وللمجتمع ثانيا، وهذه المقاطع قد تمنح صاحبها شهرة عابرة، لكنها تترك جروحا عميقة في نفوس الأفراد وندوبا طويلة في ضمير المجتمع "القانون مهم، لكن التربية والأخلاق هما الحصن الأول. فإذا فقدناهما، فلن يكفينا أي رادع"، على حد تعبيرها.