عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    29-Nov-2019

“يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا” - د. محمد المجالي
 
الغد- هي سورة الأنفال، سورة بدر، حيث انتصار الفئة المستضعفة على الفئة المستكبرة، وهو أول لقاء بين جيشي الإيمان والكفر، مع أن المؤمنين ما خرجوا في الأصل للحرب، إنما للقاء قافلة تجارية، ولكن مشيئة الله أن يكون اللقاء الذي تكرهه النفوس: “وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم”، ولو كان الأمر غنيمة عاجلة لحصّلوها، وربما اتهمهم أعداؤهم حينها بأنهم قاطعوا طرق، فشاء الله لهم ما هو أسمى، حيث هزيمة الباطل المنتفخ الذي تحدث عنه للتو أبو جهل وقد علم عن نجاة القافلة، فكان بإمكانهم الرجوع، فأبى إلا أن يرد بدرا، لينحروا الإبل، ويشربوا الخمر، وتعزف القيان، فما تزال العرب تسمع بهم وتهابهم، فأبى الله إلا إذلالهم، وقتل صناديدهم.
غنم المسلمون كثيرا، وتنازعوا في شأنها، وعاتبهم الله في صدر هذه السورة: “يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين. إنما المؤمنون الذين إذا ذُكِر الله وجلت قلوبهم، وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون…”، من هنا توالت في السورة نداءات الإيمان، وكانت ستة نداءات.
وهذه الآية عنوان المقال هي خامس هذه النداءات في هذه السورة، حيث يقول الله تعالى: “يأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفِّر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم، والله ذو الفضل العظيم”، جاء قبله نداء أول في النهي عن تولي الأدبار في القتال حين ملاقاة الكافرين، ونداء ثان في الأمر بطاعة الله ورسوله والنهي عن التولي عنه سبحانه، ونداء ثالث بالأمر بالاستجابة لله وللرسول حين يدعوهم لما يحييهم، ونداء رابع في النهي عن خيانة الله ورسوله والأمانات، وهذا النداء الخامس المرغب بالتقوى، وهي نداءات متتالية، ثم الأخير بعد منتصف السورة حيث الوصايا الخمس للمؤمنين حين لقائهم فئة من الكافرين، وتصلح نصائح عامة في حياة الداعية: “يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا، واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون، وأطيعوا الله ورسوله، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين”.
وكأن هذا النداء الأخير شامل لمحتوى النداءات الخمس السابقة، فقوله: “إذا لقيتم فئة فاثبتوا” يقابله أول نداء: “ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولّوهم الأدبار”. وقوله: “واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون” يقابله ثالث نداء: “يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم”، ففي الذكر حياة القلوب. وقوله: “”وأطيعوا الله ورسوله” يقابله ثاني نداء: “ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون”، وقوله: “ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم” يقابله رابع نداء: “ياأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون”، فالتنازع المؤدي إلى الفشل وذهاب قوة المؤمنين في حقيقته تفريط وخيانة لله والرسول في حمل الأمانة التي أمروا بحفظها والسير من أجلها، ويبقى التوجيه الأخير: “واصبروا إن الله مع الصابرين” يقابله خامس نداء: “ياأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا..”.
هو كذلك والله أعلم، أن من أهم عوامل الصبر في الحياة عموما، وفي الشدائد خصوصا عند لقاء العدو، هي التقوى، التي تسهم في تعميق قيمة الصبر وتجلب له معية الله “إن الله مع الصابرين”، والتقوى هي مخافة الله وتوقيره وتعظيمه وحبه والرضا عنه والأنس به سبحانه، فهذا الشعور يولد في النفس فرقانا يميز به المؤمن بين حق وباطل، وخير وشر، ونافع وضار، يجعله يبصر حقائق الأشياء، فلا تنطلي عليه الشبهات، ولا تغريه الشهوات، فهو ثابت صابر مستمسك بالهدى، صلح أمر دنياه، وسيصلح الله أمر آخرته، حيث فصّل سبحانه بنتيجة هذه التقوى التي أدت إلى منهج الفرقان الواضح في الدنيا، فمآلها لصاحبها في الآخرة أن يكفّر الله سيئات هذا المؤمن، ويزيده طمأنينة بأن يغفر لهم ذنوبهم، فهو ذو الفضل العظيم، سبحانه.
نلحظ كم كانت هذه الآية تحديدا منسجمة مع مطلع السورة حيث العتاب، فأمرهم هناك بأن يتقوا الله، لأن تقوى الله تصرف العبد ليكون مع الله، حينها يصلح ما بين المؤمنين، فهدف المؤمن المتقي وغايته هناك عند الله، لا هنا عند الناس وفي هذه الحياة، وحين يتشكل منهج الفرقان الناتج عن التقوى التي يغذيها بشكل رئيس القرآن، الذي هو فرقان، حينها يستعد المؤمن لمواجهة الحياة كلها بعلاقاتها وأزماتها، على سبيل الأفراد والمجتمعات والأمة، إذ تتحدث السورة فيما بعد عن الحرب ونتائجها، والمعاهدات ومآلاتها، وعناصر القوة في المجتمع، وآصرة الولاء بين المؤمنين، فقد اجتمع ولاء الأعداء، فإن لم نكن متحابين متولين الله ورسوله والمؤمنين فالمصير معروف، فتنة في الأرض وفساد كبير.