عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    06-Jun-2023

برهومة يكتب: عرس يُدرّس في صناعة الصورة

 عمون-د. موسى برهومة

يستحقّ عرس ولي العهد، الأمير الحسين، أن يكون نموذجاً يدرّس في صناعة الصورة، فالأمر الذي حقّقه لبّى الشروط التي ابتغاها. أي أنّ المدخلات توافقت مع المخرجات بشكل سلس وعميق وأخّاذ.
 
وما آثار دهشتي ليس العرس البهيج فحسب، بل ما تلقيتُه من تعليقات وانطباعات من أشخاص يتحدّرون من جنسيات متعدّدة توافقوا على أنّ العرس قدّم لهم صورة عن الأردن وشعبه غير مألوفة. ومن التفاصيل التي سُردت على مسامعي أنهم فوجئوا بأنّ هناك شعباً متحضراً بمدينة عصرية وشوارع فسيحة ونظيفة يقطن هذه البقعة التي أُلحقت، لسبب ما، بالصحراء وثقافتها، ما يُحيل إلى عصر ما قبل الدولة، وهذا توصيف وليس حكماً.
 
العرس قدّم (أو أُريد له أن يقدّم) للعالم عائلة ملكية فاخرة المظهر والسلوك، بسيطة الأداء والمعاملة، فرِحة غير متغطرسة أو متعالية، متقشفة البهرجة، متواضعة كأنّ التواضع مغروس في جيناتها، وليس استجابة للكاميرا، وهذا ما سعى إليه صنّاع الصورة ونجحوا فيه.
 
كان العرس، منذ ترتيباته الأولى، منضبطاً بشروط الصورة المتوخّاة، ولأنه مناسبة عامة للفرح يتقاطع فيها الرسمي والبرتوكولي والشعبي، فقد جرت مسْرحتُه. وقد أقرّ، بذلك، مخرج حفلة الحنّة مهند النوافلة الذي أفاد لتلفزيون "رؤيا" بأنّ الترتيبات استغرقت ثلاثة أشهر، وتمت بإشراف مباشر من مكتب الملكة، حيث تم "استخدام لوحة فسيفساء تمثل الهوية الأردنية بكافة أشكالها وأطيافها، إلى جانب لمسات عربية جمعت الهوية الأردنية والهوية السعودية الخليجية، فضلاً عن بصمات لبلاد الشام".
 
وكشفت الملكة انها تدربت على كلمتها وقالت ان "جلالتها كانت قلقة إلا أنّ الخوف تبدّد لاحقاً بعد تدريبها". وجرى تمرير "الخوف" و"القلق" بلا رقابة، لأنّ المقصود أنسنة الحالة، فهي ملكة مثل باقي البشر ترتبك، كما أنّ الأميرة رجوة تبكي متأثرة بكلمة الملكة عنها وعن عائلتها، وهو ما حرصت صفحة الملكة على "إنستغرام" على اقتناصه.
 
أما كلام الملك عبدالله الثاني وحركته وفرحته الصادقة فكانت، في محطات العرس كافة، جزءاً من الرسالة الإعلامية المنشودة التي تُصوّر على نحو بليغ دور "المعّزب"، وهي رسالة تتعدّى العرس إلى تأكيد حاجة المملكة إلى إنتاج صورة جديدة نفّذتها الأجهزة المتعاضدة للدولة العميقة (وهنا المصطلح يأتي في سياق إيجابي)، ما يستدعي في الوقت نفسه المعنى الثاوي في غضون المئوية الثانية التي دشّنها العرس بعد عامين من انبثاقها، فمضى يستعيد طقوس العرس والحنّة والزفّة والحمّام والزي والسيف والخيّالة والموكب، وسواها من علامات ثقافية وأنثروبولوجية راسخة في المشترك التاريخي.
 
الصورة التي قُدّم بها الأمير كانت في منتهى الذكاء والجودة: شاب جميل، وسيم، مرتبك قليلاً يخفّف من ارتباكه بسلوك عفوي، فيروح يحدّث حراسه الشخصيين قبيل دخوله إلى مضارب بني هاشم، حيث موعد الوليمة الكبرى. ويفعل الأمير السلوك ذاته، وهو يحدّث غير مرّة ويحرّك جسده تجاه الأميرة رجوة.. إنه تحايلٌ فَطنٌ لتصريف طاقة التوتر، ما يعيدنا إلى الأنسنة، وهذا ما جعل المشهد العام للعرس يتداعى بسلاسة، ويتجلى بلا ادعاء أو تكلّف.
 
وما يضاعف من أنسنة العرس هو الالتفاف الشعبي غير المسبوق والمشاركة التلقائية للناس في الحدث، كأنما تمّ محو كل الترسّبات في نفوس الناس الذين انخرطوا بإرادتهم الطوعية في صناعة عرسهم، ومضى لسان حالهم يجسد كيف "نفرح بالحسين". ولعل هذا ما قدّم رسائل بليغة ألغت أو نازعت الصور القديمة للشعب الذي قدّمته سرديات وكأنه يعيش على حافة الصحراء، أو أنه شعب محافظ متشدّد، متكتم، عبوس، عاشق للنكد، يعاني من شح الفرح والماء والرجاء.
 
هذا عرس يدرّس في صناعة الصورة، وفي توجيه الرأي والوجدان. وهذا يجري في كبريات الدول. ولعل المدهش أنّ الإعداد اللوجستي للعرس ترافق مع هيكلة نفسية للجمهور، حيث اشتبك، بشكل إبداعي، المخرجُ مع المعدّ مع صانعي الحدث. فكانت العفوية وكان الجمال والجلال، وتجسّدت في هذه اللوحة البانورامية البساطةُ العبقرية.