عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    29-Oct-2020

العرب وقمحُ الآخرين..!*علاء الدين أبو زينة

 الغد

يوم الأحد، غرد بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء العدو الصهيوني: «نتطلع إلى سلام دافئ مع السودان ونرسل بشكل فوري إلى أصدقائنا الجدد هناك طحين القمح بقيمة 5 ملايين دولار. إسرائيل ستعمل مع الولايات المتحدة بشكل وثيق من أجل دعم عملية الانتقال في السودان».
تلخص هذه التغريدة المتعالية قصة العرب المعاصرين: اعتمادهم في خبزهم، بمعناه الحقيقي والمجازي، على الآخرين. مع كل هذه الأراضي الشاسعة من المحيط إلى الخليج، يعجز هذا العالَم المُستعبَد من الداخل والخارج، عن زرع قمحه، تاركا قوتَه الأساسي رهينة لمزاج الآخرين، وألعابهم السياسية، ومضاربات الأسعار، وحتى الحرائق والجفاف في الأماكن البعيدة.
تقول إحصائيات إن 9 دول عربية تستورد 22 % من إنتاج القمح العالمي. وبالنسبة للسودان، الذي يشتري كيان العدو موقفه لصالح قضيته الخاسرة أخلاقياً وقانونياً، فقد تعلمنا أنه «سلة الغذاء العالمي» و»سلة خبز العرب». وكتب الصحفي السوداني، السر سيد أحمد، في 2019 أن «مساحة الأراضي القابلة للزراعة في السودان، حتى بعد انفصال جنوبه، تمثل نحو 40 % من إجمالي الأراضي القابلة للزراعة في المنطقة العربية. لكن معظمها مهمَل. فمن أصل 170 مليون فدان صالحة للزراعة يُستخدم ما لا يتجاوز ربعها، أي 40 مليون فدان، سواء في الزراعة المطرية أو المروية».
ويفسر: «أدى غياب الرؤية والإرادة السياسية وتضارب القرارات إلى جعل الزراعة لا تحتل المكانة التي تستحقها في هذا البلد الغني بإمكانياته الطبيعية من أراضٍ ومياه. بل حتى أنه عندما توفرت الموارد المالية بسبب ارتفاع عائدات الإنتاج النفطي التي استمرت عقداً من الزمن، ودخلت خزينة الدولة مبالغ بالعملات الصعبة تقدر بحوالي 35 مليار دولار، هي الأكبر في تاريخ السودان، لم يتم استغلالها في دعم القطاعين الزراعي والحيواني اللذين تشير إليهما الدعاية الرسمية أنهما «نفط السودان الدائم». لم توظف في مشاريع البنية الأساسية، مثل شق القنوات وتهيئة الأراضي للاستغلال الزراعي وتوفير البذور والماكينات الزراعية، إلى جانب بناء المسالخ وتوفير الخدمات البيطرية».
هذه هي قصة كل ما يحتاجه العرب ويمكن أن ينتجوه في بلادهم بسهولة لو توفرت الإرادة. ولكن، بخلاف مشروعات غير استراتيجية يتفاخرون بها هنا وهناك، يستهلك العرب كل شيء، من الإبرة -التي لا يخيطون بها حتى ملابسهم في الحقيقة- إلى دِلال قهوتهم وسجاجيد صلاتهم، إلى دباباتهم وصواريخهم وطائراتهم التي يستخدموها دائماً ضد أنفسهم، ويظلون يتعلقون بأذيال أعدائهم الواضحين حتى يحموهم من كيانات ينبغي أن تكون أضعف منهم. وهم لا يدفعون حصيلة عرق وتعب شعوبهم لأصحاب المجمعات الصناعية العسكرية والمدنية في الخارج فحسب، وإنما يرهنون إرادتهم لصناع السياسة صاحبة الصنابير، الذين يعاملون العرب بازدراء مُطلق. وسوف يُملي عليك يتحكم بقوتك وما تحمي به نفسك موقفك، ويحدد مكانتك –في حالتنا في أكثر المراتب دنوّا.
بهذا تحققت معادلة الطيف، حيث نتاج مزيج قوس قزح الرايات العربية راية بيضاء –لا للسلام وإنما الاستسلام. وسوف يُبارَك مشروع عدواني غير إنساني ولا قانوني ولا أخلاقي، مثل الاستعمار الصهيوني لفلسطين، والمُوجَّه لأشقاء التاريخ واللغة والعقيدة والعاطفة والدم، كثمن لرهن القمح والأمن والروح نفسها للآخرين. ولو كانت هذه الأرض عاقراً لا تُنبت قمحاً ولا يأتيها مطر وأهلها يولدون مشلولين، لفُهم الأمر. لكنهم أرباب بيوت تُعساء، يبددون كل الإمكانات وينهبون الثروات، ويُذهبون هباءً شقاء شعوبهم المعذّبة التي تجدّ مقابل لا شيء، والتي ينبغي أنها تعرف جيداً كيف تزرع قمحها وتحيك ملابسها بالجينات -لو أنها مُنحت الفرصة فقط.
سيتذكر الأحياء كيف كانوا يعرفون، قبل بضعة عقود فقط، ملمس السنابل وطعم القمح الطري قبل أن يصفر، كأشياء عادية قريبة من البيوت أو في سهل قريب. لكن هذه الذاكرة أصبحت بعيدة حين تبخّرت حقول القمح وأزيلت وكأنها تُثقل على الحضارة -لصالح شيء لم يصنع الحضارة. وأصبح القمح شيئاً يُستورَد بالبواخر، مخلوطا بالسوس الحيّ، تتحكم في كمّه وثمنه وتدفقه بورصات المال، ويستخدمه الغرباء في ابتزاز العرب وانتزاع تنازلاتهم، وحيث «دعم الخبز» و»رفع الدعم عن الخبز» و»ثورات الخبز» ألعاب مضنية يومية في حياة العرب.
لخص محمود درويش قصة الخبز في عبارة، فكتب: «الخبزُ مرٌّ في حقول الآخرين، والماءُ مالح». والمرارة والملح هما مذاقات خبز وماء العرب.