عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    07-Jul-2020

ما سر العلاقة التاريخية بين إيران والخدمات البريدية في العالم؟

 

بي بي سي - في فترة تشهد فيها عمليات تسليم المظاريف بالبريد في مختلف أنحاء العالم تأخيرات لا يُستهان بها، وتقف خلالها الهيئة المسؤولة عن تقديم الخدمات البريدية في الولايات المتحدة على شفا الإفلاس بسبب خسائرها المالية>
 
وياتي ذلك جراء تبعات وباء كورونا، كما قالت وسائل إعلام أمريكية، بدأ كثيرون يدركون الدور الحيوي الذي يلعبه البريد في حياتنا اليومية.
 
رغم ذلك، ربما لا يعرف سوى عدد محدود من هؤلاء الأشخاص، كيف أخذت الخدمات البريدية شكلها في عالمنا اليوم،.
 
ولا يدري كثيرون شيئا عن نظام البريد الفارسي القديم الذي شكَّل نموذجا ومصدرا للإلهام، لهيئة البريد في الولايات المتحدة، ونظيراتها في دول العالم الأخرى.
 
فعلى الرغم مما يُقال إن الحضارتيْن الصينية والمصرية مثلا، كانتا من بين أولى الحضارات التي شهدت نظاما للخدمات البريدية، وإن الإمبراطوريتيْن الأشورية الحديثة والبابلية الحديثة – حيث يقع العراق الآن – كانتا تستخدمان شكلا من أشكال تسليم الخطابات والطرود بالبريد.
 
وكان هذا قبل ظهور الإمبراطورية الفارسية إلى الوجود في القرن السادس قبل الميلاد، فإن تلك الإمبراطورية التي قامت حيث توجد إيران الحالية أوصلت فكرة ابتكار نظام للبريد إلى آفاق لم تكن معروفة من قبل في وقتها.
 
فقد استُخْدِمت لهذا الغرض شبكة مكثفة من الطرق، التي جابها فرسان محنكون، كانوا قادرين على تغطية مسافات شاسعة، امتدت عبر إمبراطورية هائلة ومتنوعة التضاريس، وذلك بسرعة مذهلة وعزيمة راسخة.
 
فباستخدام سعاة يمتطون ظهور الخيول؛ كان بوسع الإمبراطورية الأخمينية – التي ظهرت في بلاد فارس ومحيطها في الفترة ما بين عاميْ 550 و330 قبل الميلاد تقريبا – تسليم الرسائل في غضون أيام معدودات، برغم المسافة الكبيرة للغاية، التي تفصل بين صاحب الرسالة ومتلقيها.
 
فوفقا للباحثين، كان يمكن نقل رسالة من مدينة سوسة القديمة، العاصمة الإدارية للإمبراطورية، التي تقع غربي إيران الحالية، إلى مدينة سارد الواقعة غربي تركيا كما نعرفها حاليا، في غضون ما بين سبعة إلى تسعة أيام، وذلك عبر ما كان يُعرف بـ “الطريق الملكي”، وهو ضرب من ضروب الطرق السريعة التي كانت تصل بين المدينتيْن.
 
وفي كتاباته، أشار المؤرخ الإغريقي هيرودوت إلى أن هاتين المدينتين، كانتا تقعان على طرفيْ “الطريق الملكي”، البالغ طوله 2600 كيلومتر تقريبا.
 
وفي كتابه الذي يحمل اسم “تاريخ هيرودوت”، قال المؤرخ الشهير إن قطع هذا الطريق بالكامل، كان يستغرق من المرء ثلاثة شهور سيرا على الأقدام.
 
ورغم المسافة الكبيرة التي كان يغطيها ذلك الطريق، فإن نظام البريد في الإمبراطورية الفارسية، كان أوسع نطاقا منه بكثير. ففي كتابه “من قورش إلى الإسكندر: جانب من تاريخ الإمبراطورية الفارسية”، قال أستاذ التاريخ الدكتور بيير بريانت إن “وصف هيرودوت هنا مجتزأ للأمر..
 
فـ ‘الطريق الملكي ‘ الواصل بين سوسة وسارد، لم يكن سوى واحد من ضمن الكثير من الطرق المماثلة” التي كانت موجودة في الإمبراطورية الفارسية.
 
ففي ذروة ازدهارها تحت حكم داريوش الكبير، الذي يُعرف كذلك بـ “دارا الأول”، كانت الإمبراطورية الأخمينية الفارسية، تمتد من الهند شرقا إلى اليونان غربا.
 
ويشرح بريانت في كتابه كيف كشفت لوحات تذكارية، عُثِرَ عليها في مدينة برسبوليس العاصمة الرسمية لهذه الإمبراطورية، عن أن الخطابات كانت تُرْسل إلى تلك المدينة من بقاع مثل مصر والهند والعكس.
 
وتشير هذه اللوحات أيضا، إلى أن المؤرخ القديم كتسياس، سبق أن أشار إلى أن مدينة أفسس الإغريقية القديمة كانت إحدى المدن التي كان البريد يُرسل إليها أو يصل منها.
 
ويعني ذلك وفقا لـ “بريانت”، أن كل مساحة الإمبراطورية “كانت مغطاة” في ذلك الوقت بنظام البريد القديم.
 
وبالفعل كانت هذه هي المرة الأولى في التاريخ، التي تُنقل فيها الخطابات بالبريد على هذا النطاق الواسع للغاية.
 
وقد كان نظام البريد المتبع في الإمبراطورية الفارسية، يعتمد آنذاك على الخيول التي تنتقل فيها الخطابات، من ساعٍ لآخر بأسلوب التتابع، ما يجعل عملية النقل هذه سريعة وفعالة.
 
ومن المؤكد، أنه لم يكن بوسع الفرس تغطية هذه المسافات الطويلة التي تصل بينها طرق وعرة، ما لم يكونوا في الأصل، فرسانا مهرة ومحنكين.
 
وتفيد وقائع التاريخ بأن الإيرانيين القدماء، الذين يشكل الفرس أحد الشعوب الكثيرة المؤلفة لأمتهم، كانوا شديدي المهارة في الفروسية.
 
فبعيدا حتى عن نظام البريد الذي برعوا فيه؛ كان الإيرانيون القدماء هم من ألهموا الإغريق – مثلا – استحداث سلاح الفرسان في الحروب، كما كانوا أصحاب الفضل في ابتكار لعبة البولو.
 
وفي كتاب “تاريخ العالم الحضري: من منظور اقتصادي وجغرافي”، يقول الدكتور لوك-نورمان تيلير إن “الطريق الملكي الفارسي، يشكل من الوجهة التاريخية” أول طريق من نوعه صُمم “بهدف الاستفادة الكاملة من عملية نقل الأشياء على متن الخيول، من خلال أشخاص يتحركون بنظام التتابع” الذي تنتقل في إطاره الخطابات والطرود من يد ليد.
 
تمثال لحصان
ومن بين عوامل تميز نظام البريد الفارسي القديم؛ كما تقول الدكتورة ليندسي آلين، المحاضرة في التاريخ القديم بجامعة كينغز كوليدج في العاصمة البريطانية لندن؛ أنه شهد استخدام لغة موحدة ومفردات قياسية، عبر الامتداد الواسع للإمبراطورية الأخمينية، فضلا عن تماثل الطرق المتبعة في إطاره لتسليم الخطابات، وكذلك شكل هذه الرسائل وتصميماتها.
 
وفي هذا السياق، جرى استخدام اللغة الآرامية في إعداد الخطابات التي كانت تُرسل بالبريد في الإمبراطورية الفارسية، نظرا لأنها كانت اللغة المعتمدة في التعاملات الإدارية في أنحائها، حتى رغم كونها غير ذات صلة بـ “الفارسية القديمة”؛ اللغة الأم للفرس. ويماثل ذلك ما يحدث عادة حاليا، من استخدام للأبجدية الإنجليزية واللاتينية، على المظاريف والطرود في مختلف أنحاء العالم.
 
وتقول آلين إن هذه كانت “المرة الأولى التي استُخْدِمَت فيها، وبشكل منتظم، حروف منسقة.. (على هذه الشاكلة) في إطار نظام للبريد”.
 
وتضيف بالقول: “لسوء الحظ، ليس لدينا سوى عدد محدود متبقٍ من الرسائل المسطورة على الرِق باللغة الآرامية.. لكن ذلك يشير في حد ذاته، إلى أن تلك الفترة شهدت اتباع ممارسات إدارية موحدة تحكم مسألة إرسال الخطابات بالبريد، سواء كان الأمر يتعلق بخطابات تُرسل إلى بلد مثل مصر، أو برسائل أخرى قادمة من حاكم محلي لمنطقة أصغر حجما في الإمبراطورية مثل ‘باختريا ‘”.
 
ورغم أن “الطريق الملكي” شكلّ وسيلة فعالة على نحو لا يصدق لنقل الرسائل، فلم يكن يُستعان به إلا للأغراض الحكومية والإدارية.
 
ولم يُسمح للمواطنين العاديين باستخدامه والاستفادة منه. فحسبما يقول بريانت؛ انتفع الأباطرة الفرس من هذا الطريق والطرق الأخرى المماثلة له، لكي تنقل عبرها المراسيم، وتتحرك عليها الجيوش ويتنقل من خلالها العمال الحكوميون.
 
كما استفاد هؤلاء الأباطرة من نظام البريد الذي نتحدث عنه في هذه السطور، للبقاء على إطلاع كامل بكل ما يدور في أنحاء الإمبراطورية.
 
وقد تناول المؤرخ اليوناني القديم زينوفون هذا الأمر، في كتاب ألفه في الأساس للإشادة بالإمبراطور قورش الكبير، وهو الكتاب الذي لا يزال البعض يعتبرونه دليلا كلاسيكيا بشأن كيفية القيادة الفعالة.
 
ففي هذا العمل، ينسب زينوفون الفضل في ابتكار نظام البريد إلى كورش، ويقول إن ذلك الإمبراطور، استخدمه لجمع المعلومات الاستخباراتية.
 
وكتب في هذا السياق قائلا: “يمكن أن يسمع الملك (من خلال هذا النظام) أي شخص، يقول إنه سمع أو رأى شيئا يستحق الانتباه والاهتمام.
 
ومن هنا جاء المثل القائل ‘إن للملك ألف عين وألف أذن ‘، ومن هنا أيضا، نشأ الخوف من التفوه بأي شيء ضد مصلحة الملك، لأنه ‘سيسمع ذلك دون شك ‘، أو من فعل أي شيء ربما يؤذيه ‘لأنه قد يكون هناك ليرى ‘”.
 
وقال المؤرخ زينوفون إن الإمبراطور قورش أنشأ محطات للبريد تمتد في مختلف ربوع الإمبراطورية، ويفصل بين كل منها والآخر، أقصى مسافة يمكن للجواد قطعها قبل أن تخور قواه.
 
وكان السعاة الذين انضووا تحت لواء نظام البريد الذي طُبِقَ في فارس القديمة، يعملون من الغسق حتى الفجر يوميا. وكان زينوفون يرى أن هذا النظام شكَلَ “أسرع وسيلة للتنقل على سطح الأرض” دون أدنى شك.
 
أما هيرودوت فقد أبرز في كتابه “التاريخ”، انتفاع نظام البريد في فارس بأسلوب التتابع.
 
وشرح الطريقة التي طبقه بها السعاة، عبر نقل الخطابات من أحدهم للآخر. ويضفي هذا الوصف مصداقية أكبر، على ما ورد في كتابات زينوفون في هذا الشأن، بالنظر إلى أن الأخير لم يكن من بين المؤرخين الأكثر مصداقية في زمنه.
 
ويقول هيرودوت في هذا الصدد: “لا يوجد أي بشري قادر على قطع الطرق بسرعة أكبر، من حاملي الخطابات هؤلاء.. ممن لا تعوقهم لا الثلوج ولا الأمطار ولا الحرارة الشديدة ولا الظلام، عن إتمام الجولة المحددة لكل منهم، وبكل سرعة”.
 
وتشكل السطور السابقة الوصف الأكثر شهرة لسعاة البريد الفرس، ولنظام البريد القديم في بلاد فارس كذلك.
 
وفي الوقت الحاضر، تمثل هذه العبارات بقليل من التعديل والتحوير، شعارا غير رسمي للهيئة المنوط بها تقديم الخدمات البريدية في الولايات المتحدة، وهو الشعار الذي يقول: “لا الثلج ولا المطر ولا الحرارة ولا ظلام الليل، تُقعد سعاة البريد عن الإتمام السريع للجولات المحددة لهم”.
 
ويمكن للمرء رؤية هذه الكلمات، وقد حُفِرَت على واجهة المبنى الرئيسي الفخم للهيئة في مدينة نيويورك.
 
أما في الثقافة الأمريكية الشعبية، فقد ارتبطت تلك العبارة بتفاني العاملين في هيئة البريد.
 
ولعل مشاهدي مسلسل “شيرز” التليفزيوني الأمريكي، الذي حقق نجاحا كبيرا في ثمانينيات القرن الماضي، يتذكرون أن أحد أبطال العمل، وكان يعمل ساعيا للبريد، اقتبس تلك الكلمات خلال حديثه بفخر مع أصدقائه، وهم يحتسون الشراب معا.
 
وحتى بعد انهيار الإمبراطورية الساسانية، أو الإمبراطورية الفارسية الثانية، في القرن السابع الميلادي، ظل النظام الفارسي لنقل البريد بأسلوب تتابع السعاة، قائما حسبما تقول الموسوعة الإيرانية.
 
وجاء استمرار هذا النظام، سواء بشكل كلي أو جزئي، بفضل غزاة لهذه الإمبراطورية، مثل العرب والمغول، وذلك جنبا إلى جنب مع السلالات الحاكمة لهذه المنطقة من أبنائها الأصليين، مثل الصفويين والزند والقاجار.
 
لكن ذلك لا ينفي أن أيام مجد سعاة البريد، التي شهدتها الإمبراطوريتان الأخمينية والساسانية، كانت – بحلول ذلك الوقت – قد ولّت.
 
وفي تلك الفترة، بات يُطلق على الواحد من هؤلاء السعاة، مصطلح “تشابار” المأخوذ من اللغة التركية. وفي تسعينيات القرن التاسع عشر، نشرت الباحثة والمستكشفة وعالمة الآثار البريطانية غيرترود بيل كتابها “صور فارسية”، الذي يتناول أسفارها.
 
وروت بيل في الكتاب زيارتها ورفاقها لمكان كان يشكل إحدى محطات، أو مكاتب البريد، التي كان يمر عليها السعاة بخيولهم في الماضي.
 
ورغم التدهور الذي حل بهذه المحطات، التي كانت قائمة في يوم ما بعدد كبير للغاية في مختلف أنحاء إيران، فإنها ظلت في أغلب الأحيان، لا تُقدر بثمن بالنسبة لـ “بيل” وأقرانها من الرحالة، لأنها كانت تُستخدم كـ “نُزُل” في المناطق الفاصلة، بين المدن الإيرانية الكبرى. ومن بين هؤلاء الرحالة، تي إس.
 
أندرسون، الذي روى في أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر، في كتاب أسفار حمل عنوان “رحلاتي في بلاد فارس”، كيف كان يستمتع بأجواء الحفاوة، التي كانت تسود هذه النُزُل، والطعام الجيد الذي كان يُقدم فيها.
 
ومع أن مكاتب البريد العتيقة هذه، لم تعد تُستخدم بطبيعة الحال في إيران المعاصرة، فلا يزال بوسعك أن تراها في أنحاء مختلفة من هذا البلد.
 
فإذا زرت منطقة ميبد بوسط إيران، ستجد مكتبا منها، يعود إلى فترة حكم سلالة القاجار (بين عاميْ 1785 – 1925)، وهو يُستخدم الآن متحفا للبريد وللاتصالات.
 
ويحتوي هذا المتحف على نماذج مصنوعة من الشمع، لسعاة البريد على الشاكلة التي كانوا يبدون عليها في فترة حكم القاجار.
 
وفي قرية مجاورة، يمكنك أن تجد أطلال مكتب آخر أكثر قِدما، إذ يعود لفترة حكم سلالة الزند (1751 – 1794). وغير بعيد عن مدينة سبزوار بشمال شرقي إيران، بمقدورك زيارة بقايا مكتب ثالث يعود للعصر الصفوي (1501 – 1736).
 
أخيرا، فبالرغم من أن “الطريق الملكي” ونظام البريد القديم في بلاد فارس، ربما صارا يشكلان أمورا من الماضي السحيق، فإن براعة الأخمينيين الفرس ومثابرة السعاة الذين كانوا ينقلون الخطابات في تلك الحقبة، لا تزالان تشكلان مصدرا للإلهام والتأثير، يتجاوز أثره حدود إيران القديمة، والإمبراطورية الفارسية المهيبة كذلك.