الغد- في المقالات السابقة استعرضنا فشل محاولات اعتماد العقل مرجعیة مطلقة استنادا للفلسفة الیونانیة والمنطق الأرسطي في تجربة المتكلمین والفلاسفة، والیوم سنفحص سلامة اعتماد العقل مرجعیة مطلقة استنادا للفلسفات الغربیة العصریة، والتي أصبحت قبلة كثیر من العقول في أمتنا الإسلامیة مع الأسف.
كما ھو معلوم أن أوروبا شھدت ثورة فكریة على المنطق الأرسطي الیوناني بعدما تأثرت بالحضارة الإسلامیة في الأندلس أو عبر الحروب الصلیبیة، وھذه حقیقة أصبحت محل اتفاق لّفت فیھا عشرات الكتب منھا ”شمس الله تسطيعُ عند جماھیر العلماء المنصفین في الغرب، وأ على الغرب، أثر الحضارة العربیة في أوروبا“ للباحثة الألمانیة زیغرید ھونكة، وبرغم أن كلمة ”الله“ كتبت بخط عربي في العنوان على غلاف النسخة الألمانیة إلا أن الكتاب تُرجم وطبع مرات عدیدة ومنذ سنوات طویلة باسم ”شمس العرب تسطع على الغرب“!!
المھم؛ بدأت ھذه الثورة الفكریة على ید رینیھ دیكارت (1596 – 1650م) والذي قام بقطیعة ُ معرفیة مع النسق الأرسطي والفلسفة المدرسیة المسیحیة في القرون الوسطى، والتي مزجت فیھا الفلسفة الیونانیة والمنطق الأرسطى مع تعالیم الكنیسة مما أنتج أزمة كبیرة بتعارض ھذه الفلسفة مع الواقع والعلم ومن ثم اضطھاد العلماء!
قام دیكارت -والذي یعد مؤسسا للفلسفة الحدیثة- بفصل عملیة التفكیر عن المفاھیم الكنسیة اللاھوتیة، وانطلق من العلم، وخاصة الریاضیات والعقل، واعتمد الشك المنھجي، فأعلى من
لحد تألیھھ والاكتفاء بھ كوسیلة للحقیقة المطلقة! حتى لقب بنبي العقلانیة! ورأى منزلة العقل جداً دیكارت أن الذات ھي مركز الكون بخلاف الفلسفة القدیمة، واعتبر أن الكون یسیر بطریقة میكانیكیة آلیة، وبذلك أھمل دیكارت قضایا الروح والغیب رغم أنھ كان یؤمن بھا! وھو الذي فتح الباب لاحقاً لترسخ النظرة المادیة للوجود في الغرب.
ولذلك سرعان ما ظھرت أصوات فلسفیة كثیرة رافضة لھذا الغلو الدیكارتي الشكي والعقلاني، فقد أثبتت التجربة والإدراك الحسي عجز العقل عن إدراك الحقیقة دوماً، فجاء دیفد ھیوم (1711 – 1776م) بفلسفتھ التجریبیة من وھم وثوقیة عقلانیة دیكارت، ولكن التجربة والحواس تلتقي مع العقل أیضاً، وبذلك أصبح ھناك حالة من الفراغ وعدم التوازن بین دیكارت وھیوم، ما فتح المجال لظھور فلسفة كانط الجدیدة!
جاء إیمانویل كانت أو كانط (1724-1804م) بفلسفة توفیقیة بین دیكارت وھیوم، حیث رفض إطلاق العنان لقدرة العقل على إدارك الحقیقة، وجعل ذلك محدوداً بحدود التجربة والواقع الحسي، مع الإقرار بأن الإیمان بالغیب ضرورة، لكن بقیت مشكلة الغربیین –عموما- أن طریقھم لمعرفة الغیب یمر بوحي محرف یصطدم بالعالم والعلم! مما یجعل الإنسان مقسوما بین جانب عقلي مادي سلیم نوعاً ما وبین جانب غیبي غیر منطقي، مما فتح الباب للإلحاد من جھة، وفتح الباب للتركیز على اللذة والمنفعة الحاضرة من جھة أخرى، وھو الواقع في عالم الحداثة وما بعد الحداثة الیوم بكل وضوح.
وعلى ھذه الفلسفة الغربیة الحدیثة تقوم حالیا الفلسفات الغربیة المعاصرة، والتي ما عادت تركز
على تقدیم تصور كامل بقدر ما تركز على جزئیات ومواضیع محددة ”إن كل المفكرین في ھذه المرحلة الغربیة یتناولون مشكلات محددة مشتركة“ و“لا توجد فلسفة واحدة ھي التى تمثل العصر“ كما یقول إ.م. بوشنسكي في كتابھ ”الفلسفة المعاصرة في أوربا“ من منشورات سلسلة عالم المعرفة، والذي یواصل حدیثھ عن واقع الفلسفات الیوم في الغرب فیقول: ”الیوم تتصارع ِ فلسفات وتصورات مختلفة عن العالم أشد صراع، فمن النادر أن كان الصراع الفكري على مثل ھذه الضراوة، ونادرا ما كثرت التصورات المتعارضة مثل ھذه الكثرة وكانت على مثل ھذه الحدة“، وعن تأثیر ھذه الفلسفات في الواقع یقدم لنا بوشنسكي مثالا مھما وھو أن: ”الفیلسوف
الألماني ھیجل وھو الفیلسوف الذي یصعب كثیرا فھم كتاباتھ: ھو الذي فتح الطریق لتظھر حركات مختلفة مثل الفاشیة والحركة الھتلریة والشیوعیة“!!
فھذه ھي تضاربات الفلسفة الحدیثة والمعاصرة الغربیة، وھذه ثمارھا المرة، فھل یمكن أن یكون
من العقلانیة اعتماد ھذه (العقول) كمرجعیة وھي تتناقض وتتضارب وتنتج لنا كل مدة كارثة فكریة أو دینیة أو أخلاقیة أو مجزرة دمویة؟ وھل وقف الحال عند ھذا الحد؟ الجواب: لا.
فبعد أن ثبت فشل مفھوم العقل في فلسفة الیونان، والقائمة على زعم وجود عقل منفصل، وأقر
ِّ دیكارت وكانط وھیجل بأن العقل ھو أمر معنوي یقصد بھ مجموع المبادئ الصلبة المنظمة للمعرفة، وھو ما سبق لھ علماء الإسلام والسلف من قرون، فإن الاطروحات الفلسفیة لما بعدالحداثة، والفرنسیة منھا خصوصاً، طرحت ذلك ونبذتھ مع تطور العلوم والمعارف، ودعت لفكرة (تاریخیة العقل)! ویقصدون بھا عدم وجود قواعد عقلیة مطلقة بل مرتبطة بالزمان ومعارفھ، وأن العقل یتطور من عصر إلى عصر، وأن الوصول للحقیقة غیر ممكن!!
وھذا كلام في قمة عدم العقلانیة لأنھ یؤدى إلى السفسطة والعدمیة، وینفي وجود مقدار مشترك
من المفاھیم عبر التاریخ مثل أن الجزء أصغر من الكل وأن الواحد أقل من الإثنین، وبذلك تنتفي الحقیقة ویصبح الحق والباطل قضیة نسبیة بحسب الزمان، وھذا نفي للمعیاریة، وھي التي تحكم
القضایا الكلیة التي بھا تستقیم الأمور والعلوم!!
َ ومغالطة (تاریخیة العقل) ھي سبب ما نراه من تناقض في سلوك الغرب، فبینما ھو یعبر الثورةَ الرقمیة ویدخل عصر الإنسان الآلي نراه ینحط إلى الشذوذ الجنسي الذي تأباه الحیوانات! ونراه یغرق في عالم الخرافات والشعوذة والسحر!
وللأسف أن ھذه الھرطقات العقلیة ھي ما یحكم كثیر من منظري العلمانیة العربیة كأركون وعابد الجابري وطرابیشي وھاشم صالح.
فھل بعد نفي العقل جملة تفصیلاً على ید كھنة العلمانیة والعقلانیة المغدورة تصح دعواھم باعتماد العقل مرجعیة مطلقة للبشریة؟
وبھذا یتبین لنا سلامة موقف علماء الإسلام والسلف عبر القرون من رفض مزاعم الواھمین بضرورة الرضوخ لمفاھیمھم الباطلة والتي لقبوھا بالعقلانیة وھي في الحقیقة أوھام غیر عقلانیة، وأن الحق والصواب ھو في منھج السلف القائم على اتباع الوحي الرباني في فھم الدین وعالم الغیب وتوظیف العقل في إطاره الصحیح وھو عالم الشھادة والطبیعة باعتماد المنھجیة السلیمة القائمة على المعلومة الصحیحیة والتجربة الحسیة السلیمة.