عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    13-Apr-2025

عن الموقف من الثورة..! (3)*علاء الدين أبو زينة

 الغد

تناقض الموقف من ثورتين: الذي يتابع مداخلات بعض الإعلاميين والمثقفين في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، سوف يلاحظ مفارقة أخلاقية وفكرية في مداخلاتهم: ثمة أصوات، فلسطينية وعربية، وقفت –وما تزال- بحماسة مع تسليح الثورة السورية، مُبرّرة ذلك بأنه ردّ مشروع على القمع، وثورة شعبية تسعى إلى التحرر، حتى وإن جرّ ذلك البلاد والعباد إلى كارثة إنسانية شاملة من قتلٍ ودمار وتهجير ونزوح ومآسٍ ما تزال تتكشّف فصولها حتى اليوم. لكنّ هذه الأصوات ذاتها، حين تُوجّه الحديث إلى فلسطين، تتخلى عن مبدأ «الحق في المقاومة»، وتستدعي مفردات «التعقّل» و»الحكمة»، بل وتكيل النقد العنيف لتسليح المقاومة الفلسطينية، وتصفها بالعبثية، أو بالمغامرة غير المحسوبة، أو «التضحية المجانية». ويتغافل هؤلاء السياقين اللذين من المؤكد أن الفلسطيني بينهما يبرر التسلح بما لا يُقاس، حيث تواجه فلسطين استعمارًا استيطانيًا يُنكر أصلًا وجود شعبها، ويصادرها بيتًا بيتًا، وزيتونةً زيتونة.
 
 
هذه الازدواجية تثير تساؤلات حول الأسس التي يُبنى عليها تأييد المقاومة أو رفضها: هل هي مبادئ ثابتة تتعلق بحق الشعوب في التحرر، أم تخضع لأهواء سياسية، أو اصطفافات إيديولوجية، أو حتى ضغوطات خطابية تتعلق بالقبول في الفضاء الإعلامي أو خدمة الدعايات الرسمية؟ لماذا بدا العنف الثوري مقبولًا -أو حتى محبذًا أو واجبًا- في الحالة السورية، باعتبار العسكرة «ضرورة يفرضها الواقع» على الرغم من تسببها بحرب أهلية كارثية مدمرة، بينما تُنتقد بشدة في الحالة الفلسطينية، مع أنها موجهة نحو عدو خارجي غريب واضح المعالم؟ لماذا هذه الانتقائية؟ والتماهي مع سرديات دولية ترى في الفلسطيني دائما مشتبها به، بينما تمنح الآخرين شرعية حمل السلاح والثورة؟
 
في السياق السوري، على الرغم من شرعية المطالب الشعبية في البداية، سرعان تحول البلد إلى ساحة للمنافسات وتصفية الحسابات الإقليمية والدولية. لم يكن المواطنون السوريون العزّل بأي حال ندًّا لجيش الدولة وأجهزتها الأمنية. وقد برر تسليح الثورة حملة القمع التي راح ضحيتها ملايين السوريين، قتلاً أو نزوحًا أو هجرة وفقدان للأمن والمستقبل. وكما اتضح سريعًا، لم تكن القوى التي سلّحت المعارضة السورية حريصة على «الحرية»، بقدر ما كانت تنفذ أجندات جيوسياسية، وأدت الحرب الأهلية التي قتَل فيها السوريُّون السوريين إلى تدمير مقدّرات البلد بالكامل.
حسب تقديرات «المرصد السوري لحقوق الإنسان، بلغت حصيلة القتلى منذ اندلاع الثورة السورية في آذار (مارس) 2011 وحتى آذار (مارس) 2025 أكثر من 600.000 سوري. وتشير التقارير إلى أن 16.7 مليون شخص داخل سورية أصبحوا في حاجة إلى مساعدات إنسانية، وهو ما يمثل 71 في المائة من السكان. كما نزح داخليًا حوالي 6.9 مليون شخص، وفرّ أكثر من 5.4 مليون آخرين إلى خارج البلاد. وأصبح البلد مقسما إلى مناطق نفوذ للداخليين والخارجيين، وتتقاتل عليه الآن تركيا والكيان الصهيوني ويحتلان أجزاء منه. ويحتاج إلى عملية إعادة إعمار تستغرق عقودًا وما يزال مستقبله مجهولًا.
مع ذلك، لم نسمع من نفس هؤلاء المعلّقين الذين ينتقدون تسليح المقاومة الفلسطينية اليوم أيّ نقد جذري لمبدأ التسلح السوري باعتباره مجلبة للموت، وقتال غير متكافئ ضد قوة متفوقة، وخراب على الجميع من دون استثناء. وكانت دعوتهم هي «الثورة أو الموت».
في المقابل يُقاتل الفلسطينيون عدوًا أجنبيًا، صاحب مشروع واضح للسيطرة على الأرض وطرد السكان ومحو الهوية. وتسلحهم نابع من منطق البقاء نفسه. ومع ذلك، يوصم فعلهم المقاوم بالمجازفة والانتحار والتطرف، وتُفكك مشروعيته بحجج من قبيل: «المقاومة لا تجلب سوى الدمار»، أو «المجتمع الدولي لن يقف معنا إذا قاومنا» -وكأنّ المجتمع الدولي وقف معنا حين صمتنا! وكأن التاريخ أثبت أن التماهي مع منطق القوة السائد يفضي إلى الحرية.
التمسك بتكفير المقاومة بدعوى الحرص على الحياة ليس موقفًا حياديًا. إنه يتماهى مع قول نتنياهو وآلة الدعاية الغربية التي تبرر الإبادة بأن المقاومة (لا يسمونها كذلك) هي التي جلبت الدمار على الفلسطينيين. ويكفي هذا وحده لتجنب تكرار خطاب العدو وإكسابه مصداقية. ومهما تكن المشاعر، ينبغي توجيه اللوم دائمًا إلى الاستعمار الاستيطاني الذي هو السبب في كل الويلات في فلسطين والمنطقة. إنه السبب في وجود المقاومة، واختبارات الخطأ والصواب في الخبرة الفلسطينية في المقام الأول، وهو وحده المسؤول عن معاناة الفلسطينيين وإبادتهم بذريعة وبلا ذريعة.
يستطيع الذي يراقب هذه الأصوات ويتعقب خلفياتها ويتابع مقولاتها أن يحكم بمصدر تناقضها، المنطلق من اصطفافات سياسية أو أيديولوجية، لا من موقف أخلاقي صادق. البعض يوجهون النقد الشديد للمقاومة ويستخدمون مصارع الفلسطينيين لتبرير قرار الصمت والتخلي عن الفلسطينيين: انظر ما يحدث لمن يحاول معارضة القوة القاهرة! والبعض يهاجم المقاومة لأنهم يحسبونها على محور سياسي لا يعجبهم، أيضا لتبرير ترك الفلسطينيين لمصيرهم. وهم يقيسون الشرعية بميزان الولاءات، لا بميزان العدالة. وهذا يُفرّغ القضية الفلسطينية من بعدها الإنساني والتحرّري، ويحوّلها إلى ورقة في صراع المحاور، فتضيع البوصلة، ويصبح الشعب الفلسطيني ونضاله رهينة لرؤية ضيقة تخلط بين العدو الوجودي والمنافس السياسي.
ليست المقاومة في فلسطين خيارا في رفّ البدائل، بل هي الضرورة التي فُرضت بفعل العدم القادم من فوهات البنادق الصهيونية. ومَن يُهاجم المقاومة ولا يقدم بديلًا قابلًا للحياة، يمارس بوعي أو دون وعي نوعًا من التفريط الوجودي، لأنه يغفل عن حقيقة أن هذا الشعب، إذا ما تمكن العدو –والصديق- من دفعه إلى الصمت والاستسلام، فإن المشروع الصهيوني لن يترك له سوى خيارين: الطرد أو الاندثار. وهكذا يقاتل لا ليموت، بل ليحيا.
ما يُطلب من الفلسطيني اليوم، هو أن يُسلِّم وطنه، ويصمت على موته، ويعتنق وهم الأمان في حضن قاتله. لكنّ الحياة لا تُقاس بعدد سنوات العيش، بل بمقدار المعنى في هذه الحياة.. وفي زمن يُسوَّق فيه الاستسلام كتعقّل، والمقاومة كتهور، لا بد من بعض الاحترام للذين يقاتلون ويُقتلون ليحافظوا على ما تبقّى من معنى للوجود الفلسطيني. 
لا يمكن بناء خطاب تحرري حقيقي من دون الانحياز التام والمطلق لحق الشعوب المضطهدة والمستعمَرة في المقاومة، لا بشكل انتقائي، ولا مقيدًا بشروط، بل بوصفه حقًا طبيعيًا ومقدسًا في وجه كل أشكال الظلم، الإبادة، والاستعمار.