عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    06-Jul-2025

قراءة شعرية في قصيدة "رسالة عاجلة إلى الشعر" لراشد عيسى

 الغد-عزيزة علي

 أقام منتدى البيت العربي الثقافي أمسية بعنوان "غواية شعر ولذة نقد". وقف الشعر والناقد وجها لوجه أمام مرآة المعنى، حيث قرأ الدكتور راشد عيسى قصيدته "رسالة عاجلة إلى الشعر". فبدا كمن يرسل نداءه الأخير إلى الكلمة.
 
 
وقفت الدكتورة مي بكليزي في الأمسية التي أقيمت أول من أمس، أدارتها الأديبة ميرنا حتقوة، إلى جوار النص، لا لتشرحه فحسب، بل لتحاوره، وتمازجه، وتفسر صمته قبل صوته، متسلحة بأدوات النقد وشفافية القراءة. مبينة أن هذا النص لا يحاول أن يروي وقائع أمسية فقط، بل ينقل نبضها، يلامس شعرها ونقدها معا. هو دعوة للتأمل في جدوى القصيدة، في علاقتها بالكينونة، وفي تلك المسافة الحميمة بين الشاعر والشعر، بين الورقة البيضاء والذات المتشظية.
 
بعد ذلك، قرأ عيسى قصيدته "رسالة عاجلة إلى الشعر"، التي تقول في مستهلها: "وَعَلَيْكَ يا شِعْرُ التّحايا والسَّلامْ …/يا دانَةً دانَتْ لسُلْطَتِها/ اللآلئُ بَيْنَ أصدافِ الكلامْ،/ يا مَنْ لِسِحْرِكَ يَرْفَعُ التاريخُ أوْسِمَةَ/احْترامْ./أُهْدي إليْكَ توَلُّهي،/وَتَدَلُّهي،/وجَوانحي،/وجَوارحي،/بِاسْمِ المَحبّةِ والمَواجِدِ وابْتهالاتِ/اليَمامْ./أرْجوكَ سَلِّمْ لي عليْكْ،/وَلْتَطْمَئِنّْ./إنّي بخيْرٍ يا صديقَ العُمْرِ، فانْظُرْ كيفَ/أسْتَشْفي بموسيقى الحُروفِ وأسْتَكِنّْ./ فأنا كفيلٌ بالحياةِ وقَصْدِها/إنْ يَبْتَسِمْ قلْبُ الوجودِ/وإنْ يَئِنّْ./ما زلتُ أرعى في هضابِكَ سِرْبَ/أحلامي، فَمِخْيالي شجاعٌ مثلُ نابِ/الذئبِ، مُؤْتَنِسٌ بزنْبقةٍ تَشُقُّ/الصّخْرَ، أو مُتَوحِّدٌ بِعَزيفِ جِنّْ".
وفي مقطعٍ آخر من القصيدة، يقول الشاعر: "أشْعِلْ سراجَكَ كيْ أُضِيئْ،/ مازِلْتُني في ذِمَّةِ الريحِ التي هَدَمَتْ/خِيامي،/وتركتُ ظِلّي في البوادي ساريًا في/ليْلِ معْنايَ البعيدِ/وفي هُيامي./سَرِّبْ حَفيفَكَ في عظامي،/حُزْني يُغَنيّ للهوى لحْنَ البِشارةْ،/أصْبو إليكَ لأتّقي وجَعي المُؤرْشفَ/في أضابيرِ المَرارةْ،/فَبِحَقِّ حُبّي لا تُخيّبْ مُنْيَتي/فَلَأنْتَ تكْفيكَ الإشارةْ،/ إنّي أَتَيْتُكَ أسْتَجيرُ بِتَوْرياتي/بعدما ضاقتْ أساريري/بأسْرارِ العبارةْ".
ثم قدّمت الدكتورة بكليزي قراءةً في القصيدة، قائلة "إن الشاعر يُقدم في هذه القصيدة بوصفها سيرة حب مكتملة، نشأت بينه وبين الشعر، ولم تفتر. كما يقدم فيها فقهه وسيرته الذاتية للشعر، ويمكن القول إنه يقدم "أوراق اعتماد" أو تجديد ثقة، وعقدا وثيقا ممهورا بأيمان مغلظة؛ فلا شاردة ولا واردة في حياة الشاعر إلا ويتخللها الشعر، وأجزم أنه لا خلية في جسده الممتد به إلا وهو متغلغل فيها؛ تكاد تتحول جيناته إلى قواف، ودماؤه إلى أهازيج شعرية، وقلبه إلى بحور عارمة بالوصف والغزل والمدح والغواية".
وانطلقت بكليزي في دراستها من السؤال: لماذا وجه راشد عيسى "رسالة عاجلة" إلى الشعر؟ أَيُطارده، أم يحتار أمامه؟ ترى، هل بات الشعر كائنا يدركه بعد معايشة طويلة؟ متحدثة عن علاقة الشاعر بالشعر، فالقصيدة تعرض كعلاقة حب مكتملة بين الشاعر والشعر، فالشعر يتغلغل في كل خلية من خلايا الشاعر، حتى صار كيانه كله مجازا وقافية وغزلا. يعبر راشد عن إيمان راسخ بالشعر، يصاحبه في كل لحظات وجوده، كأنه إحدى "جيناته" و"دمائه".
ثم أشارت بكليزي إلى عنوان القصيدة كمدخل تفكيكي قائلة "هناك توتر دلالي بين النظام والعجلة، فالـ"رسالة" تدل على التنظيم، و"العاجلة" على الاستعجال. وهذا التنافر يمثل بداية انزياح في البنية المعرفية للنص، تفكيك للثوابت التقليدية: من هو المُرسل؟ هل هو الشاعر؟ أم الشعر؟ فالنص يحمل في طياته نظرية دريدا حول زوال مركزية المؤلف وتداخل العلامات.
وقد أشارت إلى انزياحات ثنائية أساسية: "أولًا: الشاعر .. الشعر؛ يتحول الشاعر من كاتب إلى تابع للنص، فالشعر يمتلك استقلالا مؤثرًا داخليًا. ثانيًا: الرسالة .. الاستعجال؛ يحاول الشاعر تنظيم الخطاب، ثم يستسلم للفوضى الشعرية. ثالثا: الحضور.. الغياب؛ عبْر ما مثله بعبارة "أنا لا أنا"، يتحول المعنى وتتهشم الذات. رابعا: المعنى.. المجاز؛ يصبح الشعر فضاءً للإيهام، وتُؤجل الحقيقة في توسع متسلسل من الإحالات. خامسا: الوطن.. المنفى؛ فالشعر منزله والمنفى الذي لا يغادره".
ثم تحدثت بكليزي عن البعد الرمزي في القصيدة؛ حيث يرمز الشعر إلى الذات العليا، أو إلى حبيبة غائبة، أو إلى الكتابة والهوية الثقافية. فجملة مثل: "فأنا الحنينُ، أنا الحنين، أنا الأنين" تعيد تكرار الشعور بالضياع والبحث الروحي.
أما طبيعة الزمن في النص، فلا زمنا خطيا هنا؛ بل ومضات من الذكرى والنداء والتذكرة، مثل قول الشاعر: "مرّت عليَّ دهورٌ وأنا أبحث عنك"، إذ يكشف هذا عن زمن بلا اكتمال، زمن مؤجل باستمرار.
كما أشارت بكليزي إلى لغة النص وشاعريته؛ حيث الموسيقا الخارجية قائمة على الشعر الحر ذي المنعطفات الإيقاعية الداخلية، خصوصا عبر التكرار في "يا شاعر" و"اللآلئ". أما الموسيقا الداخلية، فتتجلى في التلاعب الصوتي عبْر الحروف المتناغمة (س، ش، ل)، مما يُضفي عمقا انسجاميا نفسيا.
أما المعجم، فهو مزيج بين الفخامة والرقة، ويُجسّد الحديث عن "التحايا" و"اللآلئ"، فيمتلئ بالمقدّس. والمنهج اللغوي يتسم بالتوظيف المركب والخبرات الشكلية الخاصة، مثل التشخيص النباتي للذات، مما يمنح النص فرادته.
وقالت بكليزي إن قصيدة عيسى "رسالة عاجلة إلى الشعر" تتسم بحضور كثيف للقيم الجمالية، سواء على المستوى اللغوي، أو الرمزي، أو التخيلي، ما يجعلها قصيدة متعددة الطبقات، تستدعي القراءة الجمالية جنبا إلى جنب مع القراءة التفكيكية.
وأضافت بكليزي أن أول ما يلفت القارئ هو جماليات اللغة الانسيابية التي تتماهى مع الصور الشعرية المركبة؛ فالشاعر يحرك اللغة لا باعتبارها أداة، بل ككائن ينبض، يتنفس، ويولد دلالات متشابكة. فاللغة هنا "مخلوق حي" تتقاطع فيه الذات مع الرمز، والمجاز مع الواقع، وتمارس حضورها الجمالي من خلال التدفق النغمي، وتراكيبها الشفافة ذات الطابع الموسيقي الخفي. فالشاعر يُوظف الصور البلاغية بوصفها حاملًا للقيمة الجمالية، لا مجرد تزيين لغوي؛ فالصورة تنبع من الوجدان وتجسد فكرًا، كقوله: "أشعلْ سراجك كي أضيء".
ورأت بكليزي أن هذه العبارة توحد بين المادي والروحي، وتبرز الفعل الشعري كشرط للوجود. كذلك تتجلى الجمالية في مفارقات مثل: "أنا لا أنا"، حيث تصبح الهوية الشعرية لحظة تجل واختفاء في آن واحد.
أما الرمزية، فهي الركيزة الجمالية الأهم في النص؛ إذ يُحيل الشعر إلى الحبيبة، والوطن، والذات، والهوية المهددة، مما يُضفي على النص بُعدًا شعوريًا متشابكًا، يتقاطع فيه الحنين بالخذلان، والنشوة بالوجع، واليقين بالحيرة.
وتتجسد القيمة الجمالية أيضًا في العلاقة بين الموسيقا والمعنى؛ فالإيقاع – سواء أكان داخليًا أم خارجيًا – لا يؤدي وظيفة سمعية فقط، بل يواكب الانفعال الوجداني ويتماهى معه، حتى يغدو النص صوتا داخليا ممتدا في مساحات الصمت والانكسار. كما أن التوظيف الذكي للتكرار، والتوازي، والمقابلة، يخلق نوعا من التماثل البصري والسماعي، يعكس وعيا شكليا عاليا بالبنية الشعرية، وينأى بالنص عن التقريرية، ليدرج ضمن الشعر التأملي المحمل برؤية فلسفية عميقة.
في هذا السياق، تتكامل القيم الجمالية في القصيدة لتشكل بعدا رؤيويا، يضع الشعر في مرتبة القداسة، ويجعل من الذات الشاعرة مرآةً مهشّمة تبحث عن اكتمالها من خلال لغة تراوغ وتراكم وتبدع، فتجعل من "القصيدة" بوابة إلى الداخل والكون في آن معا.
وخلصت بكليزي في دراستها إلى أن "رسالة عاجلة إلى الشعر"، تمثل حالة تفكيك وجودي ولغوي، تلتقي فيها الذات المتشرذمة مع لغة مشظاة، وينهار كل مفهوم ثابت. فهي تعبر عن تجربة شعرية ذاتية، رمزية، ووجودية، فتتحول إلى جهة مفتوحة على تأويلات لا نهاية لها، وفق منطق التفكيك الدريدي الذي ينفي المعنى المطلق ويحتضن الاختلاف والاستمرار في التوالد المعنوي.