"إدراك العالم".. دراسة بطابع تاريخي وتحليلي في إشكالية الأنا والآخر
الغد-عزيزة علي
ينطلق كتاب "إدراك العالم: الصور النمطية المتبادلة بين الأنا والآخر"، للباحث الدكتور زهير توفيق، من محاولة قراءة هذه الإشكالية في مداها الزمني الواسع، من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، واستكشاف آليات تشكل صورة "الآخر" في الوعي العربي الإسلامي، كما في الوعي الغربي. ويركز على دور الثقافة، لا سيما في الأدب، والفقه، والجغرافيا، وكتب الفرق والملل والنحل، في بناء هذه الصور وتمريرها وتكريسها، بما جعل من "الآخر" مرآة مشوهة غالبا لـ"الأنا"، ومصدر تهديد دائما لها، بدل أن يكون فرصة لفهم الذات وتوسيع أفقها.
يظهر الكتاب الصادر عن "الآن ناشرون وموزعون"، أن ثنائية "الأنا والآخر" لم تُحل، بل تتجدد بتجدد الظروف والتوترات السياسية والثقافية. كما تشير إلى أن الخطابات الليبرالية والعقلانية، رغم دعوتها للتسامح والتواصل، ظلت عاجزة عن تفكيك البنية العميقة لهذا الجدل، ما دامت تعاد صياغة الآخر بما يخدم تحولات الذات، سواء في انغلاقها أو انفتاحها.
وتعد إشكالية "الأنا والآخر" من أكثر الإشكاليات الفكرية تعقيدا واستمرارية في التاريخ الإنساني، وقد شغلت حيزا واسعا في الخطاب الفلسفي والديني والسياسي عبر العصور. وفي السياق العربي الإسلامي، اتخذ هذا الجدل أبعادا متعددة، ترتبط بالهوية والانتماء والمعرفة والسلطة، إذ لم تكن العلاقة بين الذات العربية الإسلامية والآخر -سواء أكان غربيا أو شرقيا، داخليا أو خارجيا- علاقة محايدة أو متوازنة، بل كانت محكومة غالبا بمنطق المفارقة والتضاد، والخوف المتبادل، وإنتاج الصور النمطية.
يقول المؤلف في مقدمته للكتاب، إن هذا العمل يمثل دراسة استقصائية ذات طابع تاريخي وتحليلي لجدلية الأنا والآخر، من خلال رصد التصورات المتبادلة بين العرب المسلمين والآخرين في العصور الوسطى والحديثة. ويعود ذلك إلى أن العرب المسلمين مثلوا من جهة ذاتا تقوم بتعيين "الآخر" وتخيله على المستويات الدينية والإثنية والسياسية، خصوصا: الفارسي، والإفريقي الأسود، واليهودي، والمسيحي بفرعيه اللاتيني والبيزنطي. ومن جهة أخرى، كانوا موضوعا لتصورات "الآخرين"، أي لصورتهم في المخيال الفارسي الشرقي (الشعوبية)، وفي المخيال الغربي الأوروبي -الرومي البيزنطي واللاتيني- خلال العصور الوسطى، وكذلك في تحولات تلك الصورة في أوروبا العصور الحديثة.
ويرى توفيق أن العقل الشعوري قد حدد، العربي وغير العربي، طبيعة خطاب الهوية (الأنا والآخر)، حيث ارتبط التعريف والتحديد بمركزية متبادلة: عربية من جهة، وأخرى مغايرة من جهة أخرى، لا سيما البيزنطية، واللاتينية، والفارسية. وقد نظرت هذه الثقافات إلى "الآخر" بوصفه طرفا أدنى، لا وظيفة حضارية له سوى الدوران في فلكها، مشكلا بذلك الجانب السلبي في معادلة ثنائية غير متوازنة.
ويضيف المؤلف، أما "العقل المعرفي"، فقد تم تهميشه أو استبعاده تماما، لتحل مكانه مشاعر الخوف، والكراهية، والتعصب، التي سيطرت على رؤية "الأنا" للآخر. ولم تعد الصورة المفارقة لهذا الآخر تسهم في فهم الذات أو استكشافها، بل غدت عائقا أمام تحققها التاريخي، واستقلالها، وإنجاز مشروعها الحضاري.
ويبين أن الثقافة العربية في الحضارة العربية الإسلامية -على سبيل المثال- تكفلت بالعبء الأكبر في تحديد صورة "الآخر" ومعاينته عن قرب، وذلك من خلال الأدب، والفقه، وكتب المِلل والنِّحل والفِرَق، والمُفاضَلات، والجغرافيا البشرية. وقد أدت هذه الأخيرة دورا محوريا في تنميط الآخر وتوصيفه، حيث رشحت عنها أفكار ومقولات مختزلة في الذم أو المدح أو تعداد الفضائل.
ويرى أنه كلما زادت المسافة أو الابتعاد عن الآخر، تضاءلت المعرفة التجريبية المباشرة به، وقلت المعطيات المؤكدة حوله، مما جعله عرضة للتوصيف الذاتي والانطباعي، والتصنيف ضمن خانة "العجيب" و"الغريب" و"المجهول". فالآخر البعيد هو المحير، الذي لا يفهم بيسر، ويظل مفتوحا على شتى التأويلات. إنه النادر، غير المألوف، أي حقيقة واقعية بعيدة عن الإدراك المباشر.
بهذا المعنى، اكتسب الآخر صفة "العجائبية" في تمثله داخل الوعي، وتدرج هذا التمثيل شعوريا من كونه مختلفا، إلى مدهش، ثم مُعجِز، فغريب، فنادر، فخارق للعادة، وأخيرا: "نسيج وحده". وفي أقصى هذا التصعيد، بلغ الآخر مرتبة التناقض، والتضاد، والشذوذ، بل والهرطقة.
وفي هذا السياق، اضطرت لغة الجغرافيا إلى الانزياح عن توصيف الواقع نحو المجاز، فانفتح المجال أمام التخييل الأدبي ومتطلبات السرد القصصي. وقد جاء هذا الانزياح استجابة لفضول القارئ من جهة، ولرغبات السلطة الساعية إلى فهم الآخر تمهيدا للهيمنة عليه من جهة أخرى.
كما تجلت مأساة "الأنا" أو الذات العربية الإسلامية، قديما وحديثا، بشكل أكثر وضوحا في وعي النخب الليبرالية منذ عصر النهضة في القرن التاسع عشر وحتى اليوم. وهذه المأساة تبدو أشد وقعا من تلك التي يحملها نظيرها السلفي، الذي اختار رفض الغرب بالكامل، واستقال من الحوار والجدل التاريخي.
فالليبرالي، بصفته ابنا لثقافة الغرب، أو منتميا إلى الأقليات المسيحية في الشام، أو من المتنورين في النخب الإسلامية الليبرالية، وجد نفسه محاصرا في محيط تقليدي وسلفي. ولتأكيد ذاته، اضطر إلى أن يبرر موقفه من خلال القطيعة مع التراث، ومع ما يسمى "الأصالة"، التي يراها السلفي ثابتة لا رجعة عنها. وقد كان هدفه تمهيد الطريق للاندماج في ثقافة الغرب، والتنظير لفاعليتها في بيئة جديدة، عبر محاولة "تبيئة" الآخر في الذات، بناء على نجاحه في بيئته الأصلية.
لذلك، ركز الخطاب الليبرالي على الجوانب الإنسانية والعالمية في التجربة الغربية، واختزل الغرب في قيم مثل الحرية والديمقراطية، باعتبارها حاجة ملحة لتحرر العرب من الاستبداد. وهكذا قدم صورة مناصرة للغرب بوصفه نموذجا للتقدم والتقنية والتنظيم والعقلانية، وعلاجا للتأخر التاريخي الشامل.
لكن الجدل حول صورة الغرب ومعناه وعوامله المحركة لا يمكن فصله عن الجدل حول الشرق، أي عن فهم الذات ومحركاتها ومعوقاتها. فالسلفي، الذي يختزل الغرب في المسيحية أو الصليبية، بهدف استنفار المشاعر الدينية لدى المسلمين، يفترض ضمنا أن الدين هو المحرك الوحيد للحياة الاجتماعية والثقافية لدى العرب، وأنه الركيزة الأخيرة لهويتهم ووجودهم.
في خاتمة الكتاب، يبين الدكتور توفيق أن الفجوة المعرفية والمنهجية لم تكن أكثر وضوحا وحدة كما كانت في إشكالية "الأنا والآخر"، منذ العصر الوسيط وحتى الزمن الراهن، وهو الإطار الزمني الذي تناولته فصول هذا الكتاب.
ويرى أنه رغم المبادئ التأسيسية والقيم التي جاء بها الوحي، ظل "إسلام التاريخ" -أي الإسلام بوصفه ممارسة سياسية واجتماعية واقعية- ممثلا في سلطة الدولة ومعيش الأغلبية، بعيدا عن "إسلام الوحي" بما يحمله من مثاليات كالعدالة، والمساواة، والرحمة، والأخوة، والإنسانية. وقد بقيت هذه القيم، التي يفترض ممارستها تجاه الآخر، حبيسة نطاق "الأنا"، لا تتجاوز حدود الجماعة.
وقد ضيقت الذات العربية الإسلامية مجالها العام وفضاءها المذهبي والإثني، ما صعب من قدرتها على إدارة الصراع والتفاعل مع الآخر، خاصة مع توسيع جبهة "الآخر" في المقابل. فكلما اتسع الآخر وتعددت صوره، تقلصت الأنا وضاقت، في الفكر كما في التاريخ الواقعي.
وعليه، فقد مثل الروم، واللاتين، والبيزنطيون، والفرس، والهنود، والصينيون نماذج للآخر الخارجي بامتياز. أما المسيحيون واليهود، فقد تم تصنيفهم كـ"آخر داخلي"، في حين اعتبر أصحاب المذاهب الإسلامية غير السنية "آخرين من نوع خاص". أما الزنوج أو السود، فقد تعرضوا للاستعباد في الشرق والغرب معا، ولم يعاملوا كـ"آخر"، بل كمرتبة أدنى من "الآخر" نفسه، من حيث الآدمية والاعتراف بالكرامة.
وفي المقابل، يبرز التناقض الواضح بين تعاليم الدين المسيحي، بوصفه "دين المحبة"، وبين الممارسات التاريخية التي ارتكبها المسيحيون اللاتين في الشرق والغرب. فقد استخدم الدين، على مر العصور، كذريعة للتبشير من جهة، وللتشهير والإبادة الوحشية من جهة أخرى، كما حدث في حروب اللاتين وفتوحاتهم، بدءا من أميركا اللاتينية بعد الاكتشافات الجغرافية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وصولا إلى المشرق العربي في الحروب الصليبية والحقبة الاستعمارية.
وخلص الباحث إلى أن ثنائية "الأنا والآخر" ستظل قائمة، وأن صورها النمطية ستزداد حدة وتطرفا ما دام التوتر والصراع مستمرين. الجديد في هذه الثنائية ليس زوالها، بل إعادة تشكيل صورة "الآخر" بما يتوافق مع تحولات "الأنا" الحديثة، وما يقتضيه ذلك من تجديد في الخطاب: خطاب الهوية، وخطاب الانعزال، وتبرير التباين والاختلاف، بل ورفض الآخر.