عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    13-Jun-2025

محمود الريماوي والعمر الذي يمضي... نصوص تمسك بتلابيب القارئ

 الدستور-إبراهيم خليل

 
شاعت في أيامنا هذه ظاهرة التداخل بين الأجناس الأدبية، فاستُعملت ألفاظٌ، وتعابيرُ، تنم على هذا المعنى؛ كالكتابة عبر النوعية، والحساسية الجديدة، وتهجين الأنواع الأدبية. وقد ذكر كل من رينيه ويلك، وأوستن وَرِنْ، في كتابهما المشترك «نظريَّة الأدب» أن الأدب الحديث، خلافا للقديم، تكثر فيه ظاهرة تداخل الأجناس الأدبية؛ فالنقاءُ النوعي أصبح – تقريبًا- من إرث الماضي(1) .
 
وفي هذا القول شيءٌ من المبالغة، ولا جَرَمَ، إلا أنه صحيحٌ من بعض الوجوه. لذا، وجدنا في الأدب العربي، وغير العربي، كتابا، وشعراءَ، وروائيين، ومسرحيين، يستخدمون كلمة (نص) والجمع (نصوص) للدلالة على أنَّ ما يكتبونه، وينشرونه، مما لا ينسحب عليه تجنيسٌ ما. فلا هو قصيدة تلتزم بقواعد الشعر، وقوانينه المعروفةِ المألوفة لدى الشعراء، ونَقَدةِ الشعر، ولا هو قصة تستوفي شروط القصة المتَّبعة لدى كتابها المعروفين، وغير المعروفين. وهذا ما دأبَ عليه القاصُّ، الروائي، الإعلامي، محمود الريماوي في غير كتاب، كانَ الأوَّل منها بعنوان «إخوة وحيدون» 1995. ثم نشَرَ بعده عددا من الكتب راوح فيها بين المَقال -  النص - والسيرة، ككتابيْه «نجومُ الشمال « و» الحياة مشيا تحت سماء أريحا»(2).
 
وعلى الرغم من أنَّ في هذين الكتابين شيئا غير قليل من فنّ السيرة، إلا أنهما يتجاوزان النسق البيوغرافي، إذ يكاد القارئ يجدُ فيهما ما يشبه القَصَص، وما يشبه الفصل من رواية، وما يشبه الشهادة، والمقال الأدبي، والخواطر، التي يحاول فيها الكاتبُ البَوْح بمشاعرهِ، وأفكارهِ، معبرًا عنْها تعبيرًا لا يخلو من تَحْنان الشعر، وسلاسَة السردِ الأقصوصي.
 
وكتابه الجديد الموسوم بعنوان «هكذا يمْضي العُمْر» يضيف إلى هذا العنوان كلمة (نُصوص) وفي هذه الكلمة دليلٌ واضح، وتأكيدٌ جازمٌ، وصريح، على رغبته في نفي الطابع القصصي عنه، أولا، والطابع المَقالي الخالص، ثانيًا، فالكاتب عُرف بصفته قاصًا، وبصفته كاتبَ مقالٍ صحفيٍ يوميّ، أو أسبوعي، مثلما عُرف روائيا بدرجة أقلّ ممَّا هو قاصّ. فبكلمة نصوص فتح الباب أمام المجتهدين ليتنافسوا على أيّ التصنيفات هو الأصحّ لهذهِ النصوص. أهي قصائدُ نثر؟ خواطر؟ قصص؟ مقالات؟ أمْ هي مزيجٌ من هذا كله تجاوَزَ به الكاتبُ إشكاليَّة التصنيف؟ ففي أحد هذه النصوص «ثمرة لم تنضج بعد» يخبرنا الريماوي بصريح العبارة بتوخّيه البحثَ عن كتابة جديدة. كتابة ليست شعرًا، وليست نثرًا. وليست رسمًا بالكلمات على رأي نزار قباني، وليست رسمًا بالألوان أو بالفحم على رأي حبيب حداد، إنما هي كتابة فيها شيءٌ من ذلك وذلك:
 
ما أنا بشاعر
 
يتحيّنُ السانحة
 
كي يبلبه بحبر أسود
 
إذ يزجيه في موج قصيدة عمياء
 
وما أنا برسام
 
يفوح ثوبه المتهدل بنواياه الزيتية
 
ويقبع ساهرًا حتى الفجر
 
قرب النافذة الشرقية
 
متربّصًا به
 
كي يدلقه على لوحة متبرّجة
 
فكلُّ ما في الأمر أنني في حياة سابقة
 
كنت مثله
 
كنت عصفور (الدّوريّ).
 
وفي نصٍّ آخر بعنوان (حبّاتُ عرق على جباه النسوة) تتراكم الأسئلة التي تزعج بها الكلماتُ الكاتبَ. فهو المتهم بالتخلي عنها، وتركها مشاعًا للذي « يسوى والذي لا يسوى» على رأي محمد إبراهيم لافي. ويهجرُها كمن يدير ظهره لمتاع زائل، أو شبه زائل. وهذه الكلماتُ سرعان ما تثور، فتغدو بثورتها تلك قصفًا كما القصف الذي تقوم به الطائراتُ على المدنيّين الآمنين في قطاع غزة:
 
قبل أن يستدرك ويستيقظ
 
إنها الطائرات تقصف بلا هوادة
 
تقصف الخبز
 
والماء الشحيح
 
وتقصف الهواء
 
تقصف الريح
 
الأثير
 
الذكريات
 
تقصف المواعيد. التفاح. البلح
 
تقصف الندى
 
تقصف حبّات العرق على جباه النسوة
 
فهذا نصٌ يقتربُ به الريماوي ممّا هو معروفٌ بقصيدة النثر، على الرغم من إشكالات هذه التسمية، وما فيها من اضطرابِ الصِلَة بين المضاف، والمضاف إليه. فهي صلة تنزع الشعرية عن هذا الضرب من النصوص، على وفق القاعدة، لكن الكثيرين تجاوزوها، وأصبحوا معتادين على هذا الاصطلاح. ففي حبّات العرق هذه حاورتِ الكلماتُ الكاتب الذي انساق في حواره لمثل هذا الإلحاح على قصف الطائرات، فهي تقصِفُ، وتقصفُ، وتقصف. مشيرًا بأنصافِ التراكيب لجلّ ما يتعرض للقصف إشارةً تمثل أحدَ الفروق التي تميز الشعر من غيره. ففي: تقصف التفاح، وتقصف البلح، والهواء، والماء الشحيح، والخبز؛ كل كلمة من هذه الكلمات تحيلنا لما يجري قصفه: آبار المياه، المخابز، حي التفاح، ودير البلح، حيّ باب الهوى، إلخ..أي أنَّ الكاتِبَ يستخدِمُ التلميح لما يُقصف ضاربًا الصفح عن التفصيل الذي يُعنى به القاصُّ عادة، ويهتم به الروائي أكثر من القاصَ. فخلوُّ النص من الوزن والإيقاع، وخلوه من التعسُّف المجازي الذي يهتمُّ به الشعر، وخلوُّه من الصوَر ذات البعد الرمزي، يُقرِّبه من النثر، وخلوُّه من الاطّراد، والتفاصيل، والاكتفاء بالتلميح، والإشارة التي تغني عن العِبارَة، يقرِّبُه من الشعر. فالقاصُّ - ها هنا - يقدم لنا نصًا لا هو بالنثر الخالص، ولا هو بالشعر الخالص، فهو بَيْنَ بين.  
 
تحليق منخفض:
 
يسْتوقِفُنا الريماوي في نصٍّ آخرَ بعنوان تحليق منخفض مع عصفور. ففي هذا النص الممتع يلتقط الكاتب صورًا لشجرة وارفة الظلال، ملتفَّة الأغصان، وفيما بينها يتنطنط (كذا) طائرٌ صغيرٌ هو الدوريّ.(البعض يسمونه دويري) وكأيِّ قاصٍّ بارع لا يفتأ الريماوي يستعرض براعته في التصوير، ذلك التصوير الذي يكاد في دقته، واحتفائه بالحركات، والأصوات، واللمسات الدقيقة التي يراها القارئ رأي العين، أو يكاد يراها بكلمة أدق، يشبه فيديو جرى تصويره بآلة تصوير حديثة الصُنع جدًا (ديجيتال) وما بين هذا النصّ والفيديو فرقٌ كبيرٌ لافتٌ، فهو لا يكتفي بعرض الصور عرضا بطيئا ومكرورًا لتحقيق المزيد من وضوح الرؤية، ولكنه يعود بالقارئ أيضًا، مثلما يعود بالكاتب – الراوي- نفسِهِ إلى سِنيِّ الطفولة، وبواكير العمر الذي يمضي دون أن ندري بأنه يمضي. يقول» لعلَّهُ أولُ عصفور صادفته في حياتي، وأدركتُ ماهيَّته في سنيّ الطفولة الأولى، وحين أسمعُ، أو أقرأ كلمة عصفور، يتجه ذهني إليه على الفَوْر، وتستحضرهُ ذاكرتي. وهو العصفورُ الذي طالما اصطاده الأطفال الأشقياءُ، وكنت جرَّبت ذلك على مَضَض « (ص 65) وبعد هذه الإضاءَة لعلاقة هذا العصفور بماضي الكاتب - الراوي- يعودُ بنا إلى العُصفور نفسِهِ مرةً أخرى، فهو ما فتئ يتنقَّلُ على ذرى فرْعهِ الرطيب، مذكرا بأغنية كوكب الشرق أغار من نسْمَةِ الجنوب. وما هيَ إلا أسْطرٌ معدودات حتى تتحول هذه النظرة للدوريّ لأفق كونيّ إذْ يتنقل بنا الكاتب فيه عبر الجهات الأربع. فهذا العُصفورُ- على بساطته وصِغَره  - لا يقتصر وجودُهُ على الشرق الأوسط الذي يُحاول النِتن الإسرائيلي - ياهو - تغييرُه، فهو طائرٌ يُنَطْنِطُ – كذا- من غصن لآخر في القارات الستّ، وفي الأقاليم المتعدِّدَة، لا يبالي، ولا يتأثر بالفروق المناخية، أو بالتضاريس الجغرافية، والحدود الجمركية، ولا حتى باختلاف اللغات، والملامح، والسجايا، والألوان التي تختلفُ، وتتبايَنُ، بها الشعوب والأعْراق.
 
وهذا النصُّ ليس قصَّة، فنحن نعرف القصص، وما ينبغي لها أن تنماز به من سرْد شيِّق، سَلِس، وما تحتفي به من نماذجَ، وشخوص، وما يضطلع به الراوي من تفسير، أو وَصْفٍ، أو حكْيٍ يخبر القارئ بما جرى، أو يجري من وقائع ُتعَدّ حكاية، أو جزءًا من حكاية. ونحنُ أدرى أيضًا باللغة التي تُروى بها القصة، وتُكتب. فهي لغة يجب أنْ تقترب بنا من تصوير الواقع الذي هو بَعْضُ حياتنا اليومية، ما لم تكن القصة غرائبيّة، عجائبيَّة، لا علاقة لها بهذا الواقع.
 
ولا هو نصٌ نثريٌ يقترب بنا من قصائد أنسي الحاج، أو جبرا إبراهيم جبرا، أو محمد الماغوط، أو أمجد ناصر، أو سركون بولص، أو محمَّد القيسي، فيما لا قافية فيه، ولا وزن. وإنما هو في رأينا أقربُ ما يكون إلى الخواطر التي تفيض بها الروح لدى رؤية الكاتب ما رآه. عصفورٌ، أو طيرٌ صغيرٌ بحجْمٍ أقلَّ من حجْم راحة اليد، لدى طفل صغير، بمنقار منْحنٍ قليلا، وريشٍ لا هو بالأسود ولا بالرمادي، بجناحين رشيقين، وقائمتين، يستطيع بهما النَطْنَطَة من فرْع رطيب لآخر، وأن يدرُج على التراب كحَجَلٍ في صنّين على حفافي جدولٍ لَعوب. وهي بهذا الحسّ خاطرة تمتلك انتباه القارئ، فلا يترك النصَّ إلا بعد أن يتمَّ القراءة مندهشا متعجبًا من قدرة المؤلف، ونهجه، في التنقل من مشهد جزئي صغير لآخر أصْغَر، في تحليل وصفي لما يراه، وهو يرقب تلك الشجرة، وذلك العُصفور عن كثب. فتذكره بالأيام الخوالي التي حاول فيها، بتأثير من أترابه الأشقياء، أن يصطاد بعض العصافير دون أن يغريه الأمر بذبحها وشيّها والتهامها لحْمًا وعظمًا بلا رحمة، كأنَّ المؤلفَ، بهذه الذكريات، يُشبِّه نفسه بالنباتي أبي العلاء المعري (454هـ) إذ يُذكـرُ أنَّ الأطباء وصفوا له طعامًا للعلاج من مرض، وكانَ هذا الطعام طيرًا صغيرًا مما يصْطادُه الناس، ويذبحونه، ويتخذونه في وجباتهم، فلما وُضِع أمامهُ في طبق، وطلب منه أن يتناول الطّعام، قال في أسىً: «استضعفوكَ فوصفوكَ لي، ليتَهُمْ كانوا وصفوا لي قلبَ أسد».
 
سما وأخواتها:
 
في واحدٍ من هذه النصوص يقترب ُبنا المؤلف مما نحنُ فيه، وهو النصُّ الموسوم بعنوان الحرب على سما وسناء وملاك ومريم وآيات. وهذه أسْماء نساء وصبايا من غزة، حاول المؤلف أن يتواصل معهُنَّ، أو مع بعضِهنَّ، للاطمئنان عليهن، بسبب القصف العنيف، والأخبار المتواترة عن ضحايا العدوان الهمَجيّ. لكن المؤلف - كعادته - لا مندوحة له من الرجوع إلى البداياتِ غير المتوقَّعة. فهو يتطرق لعدم معرفته بغزة، ولا بالقطاع، وأنه لم يزرْهُما على الرغم من أنَّ المسافة بين أريحا وغزة لا تزيد كثيرًا عمّا بين أريحا والزرقاء في الأردن. لكن المانع الذي حال، أو يحول، دون تلك الزيارة، هو الاحْتلال، إنْ كان في (موديله) الأول عام 1948 أو (موديله) الأخير عام 1967 فصفوةُ القول هي أن المؤلف لا يُنكر أن له بعض الأصدقاء من الغزازوة، منهم على سبيل المثال: راسم، وربعي المدهون، والشاعر الراحل معين بسيسو، وعاطف أبو سيف، الروائي الذي فاز بإحدى الجوائز، وشَغَل حقيبة وزير الثقافة لمُدَّة. وبُعيد وقوع هذه الحرب تذكَّر من يعرف: سناء، وهي قريبته من جهة الأب، وتذكر أخرى ملاك، التي وصفت له الوضع الرهيب، فطلب منها التواصل على موقعه على الفيس. وعندما غابَتْ عن الموقع مدة استبدَّ به القلق، وعرف أنها نزحت إلى خان يونس، ومع ذلك، لم يهدأ للكاتب بال، أو خاطر، حتى اطمأن على مريم لَبَدي، وعلى آيات خضُّورَة، التي كانت تقولُ له في آخر مكالمة هاتفية: لسَّا ما استَشْهدْتُ، لكنَّ الوضع بخوِّف.
 
وفي اليوم التالي قرأ الكاتبُ في «العربي الجديد» خبرًا عن استشهادها مع خمسة من أفراد العائلة - عليها وعليهم جميعًا رحمة الله - ولا ريْبَ في أنَّ ما ذُكر جارحٌ للشعور، ومدَمِّر للإحساس، ولكن الذي هو أكثر دموية ما يرويه الكاتبُ عما جرى يوم 10 نوفمبر من العام 2024 فقد شاهد فيديو تتمنّى فيه فتاةٌ شابّة ألا يتمزَّق جسدُها أشلاءً إذا استشهدت، فهي ترجو أنْ يظلّ قوامها متماسكًا غير متناثر الأعضاء مثلما يكثُر في هذه الحرب الوحشية التي لا تقيمُ وزنا لمعنى الإنسانية، ولا لحُرْمة الإنسان، حيًا أو شَهيدًا. إنها لبشاعة أينَ منها بشاعة الوجْه الفاشي، أو النازي، الذي أصِبْنا بالقرف من كثرة ما سمِعْنا عن فظاعته، وقسْوته، وحقارته؟! فهو، في هذه الحال، بريءٌ براءة الأطفال مقارنة بهذا الذي نراه يومًا تلوَ آخر، وساعة تلو الأخرى، من المُتَصهْيِنين، إنْ كانوا إسرائيليين أو غير إسرائيليين.
 
حبيب حداد:
 
لا يستطيع القارئ العبور من نص لآخر إلا وهو يتوق للبقاءِ مع النص الذي قرأهُ، لشدة تأثره به، كالذي يشاهد مشهدا رائعًا فيطيل فيه النظر، ولا يحبُّ أن يغيب عن ناظريه. داهمني هذا الشعور في أثناء قراءتي لما كتبه عن حبيب حداد، وكتابه «سحرُ الورقةِ البيضاء» الذي اعدَّه كميل حوّا وصدر في بيروت 2022. وحداد هذا فنان لبناني عُرف رسامًا للكاريكاتير، له حكاية طريفة مسلية مع الورق الأبيض، والأقلام، سواء كانت أقلام رصاص، أو من نوع آخر. فتصفُّحُ الكتاب تصفُحٌ لمجريات نصف القرن الماضي، إنْ كان الأمر على المستوى السياسي، أم الفني، أم الرياضي. فحبيب حداد، شأنه شأن كبار الفنانين: ناجي العلي، وعلي فرزات، وماهر داود، وبيار صادق، وصلاح جاهين، وجورج بهجوري، وبهجت عثمان، لم يترك إلا القليل مما لم يعرض له في رسومه.
 
سيدة الأشجار:
 
ولست بقادِرٍ أيضا على الانتهاء من قراءتي لهذا الكتاب دون أن أمرَّ بالنص المعنون بـ (في محبة سيدة الأشجار) فمن هي هذه السيدة. إنها شجرةُ الزيتون التي ذُكرت في جلِّ الكتب السماوية المقدسة، وذكرت في القرآن الكريم، في وصفٍ لها غريب، وعجيب، فلا هي شرقية، ولا غربية، يكاد زيتها يضيءُ ولو لم تمسَسْه نار، فهو نور على نور. والدافع للوقوف عند هذه السيدة أن المؤلفَ صدف أن غادر إلى تونس، فاستحوذ على اهتمامه ما لدى التونسيّينَ من عِشْق لشجرة الزيتون، ومن اهتمام بها، وبما لها من أثر في الحياة اليومية للتونسيّين. لدرجة أنَّ أقدم جامعاتهم سميت بها « جامعة الزيتونة «. وهم كثيرًا ما يمتدحون الزيت التونسي، ويعدونه خيرًا من غيره. ويُصدَّرُ لكثير من البلدان كثيرةِ الطلَب له، والإلحاح ِعليْه. وفي الطريق إلى الحمّامات، وهي بلدة سياحية مشهورة، شاهد على جانبي الطريق غابات الزيتون التي ذكرته بمساره ذات زيارة من أريحا إلى رام الله، وإلى قريته بيت ريما، مَشْهدٌ يذكره بآخر. والمشهد يستدعي في ذهنه ما علق بهِ من أفكار عن الزيتون وعن غارسه، وعن جَنْيِه، وعن حُبّه، وعن ذكره في أشعار درويش وغيره. وعن المعصرة، وعن الجفت، وعن الالتقاط (الجول) وعن الكثير من العاداتِ المرتبطة بهذه الشجرة الخيرة، ولم تفته الملاحظة التي يجْدُر به ذكرها، وهي كراهية الاحتلال، والصهاينة عمومًا، لهذهِ الشجرة. فكثيرًا ما يقومون بقطع الزيتون، وإحراقه، ومنع الفلاحين من جني المحصول في موسمه، وَوَضْع العراقيل في طرقهم، ولا سيما بعد أن أقاموا ما يعرف بجدار الفصلِ العُنصري. فقد عزل هذا الجدار كروم الزيتون بعضها عن بعض، وحرَم بعض أصحابها من الوصول إليها لمتابعة المحصول التي تستغرق أسابيع مثلما جاء في رواية أحمد حرب بقايا. على أنَّ في هذا الكتاب الجميل نصًا يشبه القصة القصيرة، وأعني به الموسوم بعنوان فتىً في السابعة عشرة... ففي هذا الفَصْل داهمته حمّى السرد بتقنياته المتعددة المتشابكة. ففيها يستخدم المؤلف صيغة المتكلم، وصيغة المخاطَب. فكلما أراد أن يشير لشيء ما يتعلق بهِ أشارَ للآخر قائلا « هل عرفتَ الآن لماذا لم يأتِ ذكـرُك فيما كتبْت؟». وعلى هذا النحو يواصل الريماوي نَسْجَ هذا النص، فمرة مع المخاطَب، ومرة مع المتكلم الذي هو الريماوي الكاتب. وقد أثارَ في هذا النصّ ما يسمى تقدم الشخص بعمره العقلي على عُمْره الزمني. نعم، هو ابن السبعة عشر عامًا، لكنه في الواقع يشبه الشخص الذي يهرب من عمره إلى الأمام، وقد عبَّر عن هذه المرحلة بتفاصيل آسِرة، وكأنَّ النصَّ قصة قصيرة لا أقل.
 
ومهما يكُنِ الأمْر، فإن هذا الكتاب يضيف لما ألفهُ، وصنَّفه، محمود الريماوي(3)، من كُتب، إضافةً نوعيَّة جديدةً، وهذا ليس بغريب. فقد اعتادَ ألا ينشرَ شيئا جديدًا إلا إذا كانَ يتخطّى به آخرَ، وأحْسَنَ، ما كَتب.
 
***
 
1.رينيه ويلك وأوستن ورن، نظرية الأدب، ترجمة محيي الدين صبحي، مراجعة حسام الخطيب، ط1، دمشق، 1972 ص 306 – 307
 
2انظر كتابنا قراءات في كتب السيرة، ط1، عمان، دار الخليج، 2024 ص 41، وص 95
 
3.للمزيد انظر: خليل، إبراهيم، محمود الريماوي من القصة إلى الرواية، ط1، عمان: دار فضاءات، 2018