عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    03-Oct-2025

رواية إسعيدة: حين تتحول القرية إلى رواية والمكان إلى بطل

 الدستور-د. هاشم الزيود

 
أكرمني الدكتور محمد عبد الكريم الزيود ثلاث مرات في مسيرته الأدبية. المرة الأولى حين أهداني نسخة لم يجف حبرها من رواية فاطمة قبل الجميع، والثانية حين شاركني نسخة من رواية عرق ريحان التي لم ترَ النور لأسباب تتعلق بالكاتب نفسه، أما الثالثة فكانت حين التقينا في صيف العام الماضي، وكشف لي عن سر رواية إسعيدة، وقرأ عليّ بعض فقراتها طالباً رأيي بتجرّد، قبل أن يرسل لي نسختها الإلكترونية المرسلة إلى دار النشر. في كل مرة كان يطوّق عنقي بقلادة من فكر وأدب وصور جمالية تحاكي البيئة التي نتقاسمها أنا والكاتب، تعلمنا في مدارسها، وحملنا ذات الهمّ وذات الأحلام في زمن واحد.
 
الدكتور الأديب محمد ابن مؤسستين عريقتين؛ الأولى هي الأسرة الأردنية البسيطة: أب عسكري وأمّ بنت المكان، وأخوة يتاقسمون الحلم والوجع، فالأم التي ربت وعلّمت ورعت وأهتمت وقامت بدور الأب خلال غيابه خلف أسوار الكتائب والمعسكرات. أما المؤسسة الثانية فهي المؤسسة العسكرية الأردنية نفسها، التي صقلت شخصية الأب، وهي ذاتها التي سار الابن في دروبها، جندياً ثم ضابطاً، يخدم على الحدود ويجوب الصحاري ويعرف القرى خنادق الرجولة، ويمثل الأردن في بعثات الأمم المتحدة خير تمثيل. ولا يزال، بين الحين والآخر، يكتب لنا مقتطفات من ذاكرة عامرة بصور جميلة عن الأردن الذي نحب، تلتقطه عينه وتحوله قلمه إلى نصّ أردني بامتياز، مليء برائحة الشيح والقيصوم، يصوّر الأردن بقراه وشوارعه، يكتب من ذاكرة ميادين الشرف والبطولة، وينحت على الصخر سيناريوهات لأفلام قصيرة، ويكتب عن دماء الشهداء قصص البطولة.
 
الصديق محمد لم يكتب رواية فحسب، بل أقام جسراً بين الأرض والكلمة، بين الطفولة والنهضة، حتى شعرتُ أن السطور تنبض بالتراب والرائحة والعرق والحلم. ومع أنه طلب مني أن أقرأ بعين محايدة لا بعين ابن إسعيدة، وأن لا أربط الشخوص والأحداث بالواقع، فإنني أعترف أنّني لم أفلح في ذلك.
 
اللغة: موسيقى الأرض وماء الروح:
 
لغة الرواية مصوغة بعناية صائغ يطرق الذهب على مهل. الجمل قصيرة حين يشتد الحدث، مطوّلة حين يستدعي الحنين أنفاساً عميقة. الصور البلاغية ليست مجرد زينة، بل مفاتيح لفتح حواس القارئ:
 
     المطر يجيء كأنه صلاة مستجابة.
 
     الفزعة التي تجمع أهل القرية جوقة إنشاد تؤكد أن الجماعة أقوى من الفرد.
 
     مشهد الهجرة إلى إسعيدة ومنها مشهد مفعم بالتناقض؛ بهجة الاكتشاف تجاورها رهبة اقتلاع الجذور.
 
الزيود يتقن فن جعل القارئ يرى ويسمع ويشمّ، حتى لكأننا نمشي في طرقات إسعيدة الموحلة مع الشخصيات ونسمع من بعيد نداء المؤذن يعلن ميلاد يوم جديد.
 
تقدّم رواية إسعيدة نموذجاً غنياً لما يمكن تسميته بـ «رواية المكان»؛ حيث يشكّل المكان بؤرة السرد ومحرك الأحداث، ويتحوّل من مجرد خلفية إلى شخصية حيّة تشهد على تحولات الإنسان والمجتمع. المكان ليس صامتاً، بل يشارك في صياغة مصائر الشخصيات وتشكيل أفكارها، من إسعيدة القرية الهادئة إلى الهاشمية المدينة الحديثة.
 
الشخصيات ودلالاتها:
 
تتمحور الرواية حول قاسم، السارد والشاهد على الزمن. من خلال عينيه نرى إسعيدة تكبر، تتغير، وتتصادم مع رياح التطور. قاسم ليس بطلاً كلاسيكياً يقود الأحداث، بل مؤرّخ وجداني يسجل التحولات ويعيد قراءتها بوعي نقدي.
 
     فضة: صورة الفتاة الأردنية في تلك الحقبة: الخجل، الورع، العمل المنزلي إلى جانب شقيقها، ثم الانتقال إلى بيت الزوجية كعمل آخر. تمثل الرابط العاطفي الذي يشدّ البطل إلى جذوره.
 
     عواد شقيق قاسم: تجسيد حلم الأب أن يرى ابنه متعلماً، وفخره أمام العشيرة، مرتبط بمسار العلم ونشأة الجامعات والمدارس.
 
     محمد الجبّان (صانع الجبن): رمز البساطة والعمل اليدوي المرتبط بالزراعة وتربية المواشي، ومع ذلك لم يسلم من رياح التحول.
 
     المختار منصور الفلاح: يمثل السلطة المحلية التقليدية، حارس النظام الاجتماعي قبل دخول الدولة الحديثة.
 
     العم سلامة: المقيم في عمّان، يرمز للاتصال بالعالم الخارجي والفارق بين حياة القرية والمدينة.
 
هذه الشخصيات، بتنوعها، تشكّل فسيفساء تعكس المجتمع الأردني منتصف القرن العشرين، بين الانغلاق والانفتاح.
 
الأحداث بوصفها مرايا للتاريخ:
 
الرواية لا تكتفي بسرد حكاية شخصية، بل ترصد تحولات كبرى:
 
     الحرب ومعركة الكرامة: تجلب السياسة إلى قلب القرية وتزرع معنى الفداء والصمود.
 
     بناء المصفاة والكهرباء والطرق والمدارس: رموز التحديث، إذ يزحف العمران على الحقول ويعيد تشكيل ملامح الحياة.
 
     قصة البنت المسيحية التي استجارت ببني حسن تفتح نافذة على التعايش الديني، وتكشف قدرة الشيخ سالم الفاضل الخلايلة على احتواء التغيير بدعم من الدولة دون فقدان الهوية.
 
المكان كبطل سردي:
 
أسماء الأماكن – إسعيدة، المسرة، العالوك، غريسا، حسيا، القنية – ليست جغرافيا صامتة، بل ذاكرة حيّة تكبر مع الشخصيات حتى تتحول إسعيدة إلى الهاشمية، رمز الانتقال من القرية البسيطة إلى المدينة الحديثة، بين النوستالجيا والانبهار بالتطور.
 
اللغة والأسلوب:
 
تمتزج الواقعية بالشاعرية. السرد يتنقل بين وصف المكان والتأمل الداخلي. الحوارات تكشف عن اختلاف الوعي والثقافة، فيما يجعل الوصف التفصيلي القارئ يشارك الشخصيات عبق التراب ورائحة الحقول ووقع الأقدام على طرق إسعيدة.
 
الخلاصة:
 
إسعيدة ليست رواية قرية فحسب، بل شهادة على زمن التحوّل في المجتمع الأردني. تجمع الرواية بين الحنين والوعي النقدي، بين سيرة المكان وسيرة أهله، وتترك القارئ أمام سؤال وجودي:
 
هل خسرنا أكثر مما ربحنا حين ودّعنا القرية واستقبلنا المدينة؟
 
تحوّل إسعيدة إلى الهاشمية ليس مجرد توسع عمراني، بل مرآة لرحلة المجتمعات العربية:
 
     تمدّن سريع يغيّر شكل المكان ويهدد علاقة الإنسان بجذوره.
 
     صراع داخلي بين الحنين إلى البساطة والانخراط في العالم الحديث.
 
     إشكاليات هوية تطرح سؤالاً: هل يبقى الإنسان ابن المكان أم يصبح مجرد رقم في آلة الإنتاج؟
 
إنها رواية توثق ثنائية الأصالة والمعاصرة التي ما تزال تؤرق المجتمعات العربية في زمن العولمة، حيث تكبر المدن وتزدهر المصانع، لكن يبقى الخوف أن يذوب الإنسان في صخبها ويفقد ملامحه الأولى.