عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    07-Sep-2025

أن تفكر كفلسطيني..! (7)*علاء الدين أبو زينة

 الغد

«نقطة نظام» (2)
بالمنطق البسيط– والمعقد- بدأ التهديد الوجودي والأمني والتاريخي للعرب منذ أن كتب تيودور هيرتزل في نهايات القرن التاسع عشر تعريف المشروع: «علينا أن نمتلك الأرض من وادي مصر إلى الفرات». وقد تحقق الجزء الأساسي للمشروع باستعمار فلسطين في أواسط القرن العشرين. وكان هذا التحقق هو الذي أتاح اليوم، وجود بولندي، بنيامين نتنياهو، يتحدث من قلب «القدس عروس عروبتكم»، عن رسم خريطة منطقة العرب، جيوسياسيًا. وهو الذي جعل العرب منشغلين لأكثر من ثلاثة أرباع قرن بمعاينة الأضرار وصياغة الإدانات من مختلف الأنواع.
 
 
وليس ثمة وهم- سوى وصف المشروع الصهيوني بالوهم، والوفاء لحالة الإنكار الدائمة التي تميز السياسات العربية. الحقيقة، المنطوية على مفارقة فضائية الأبعاد، هي أن جزءًا مهمًا من ترسيخ هذا المشروع وتفكيره في التمدد تحقق باعتراف العرب المستهدفين بشرعية الكيان– وضمنيًا بمشروعه. بل إن الأمر تخطى مسألة شرعنة الكيان إلى معاداة أي مظاهر أو جهود تعقّد مشروعه وتعطله– فعلًا أو حتى قولًا!
لو كان العرب جادين حقًا في استنقاذ بقايا سيادتهم المهددة لردوا على غطرسة نتنياهو بما لا يقل عن إعادة طرح سؤال شرعية كيانه الاستعماري من الأساس. كانت ما فعله العرب طوال عقود هو «إدارة» سلوك ما تُدعى «إسرائيل»: التنديد بالمستوطنات، الاحتجاج على المجازر، والاعتراض على الضمّ. وقد فعلوا ذلك على حساب الحقيقة الأساسية: أن هذا الكيان ليس دولة موجودة تاريخيًا تسيء التصرّف ضمن حدود القانون الدولي؛ بل هو في جوهره مشروع استيطاني استعماري متجذّر في الاستيلاء والنهب، ونزع الملكية والتطهير العرقي والإبادة الجماعية. وما يزال العرب يتجاهلون حقيقة أن موقف نتنياهو من «إسرائيل الكبرى» ليس انحرافًا عن مسار، بل إعادة تأكيد على طبيعة وأهداف المشروع الصهيوني المعلن منذ تأسيسه. وإذا ما أُخذ الموقف بكليته، وأريد للرد أن يكون بالمستوى الحقيقي للتهديد، لسارع العرب إلى نزع غطاء الشرعية الزائف– الذي ساهم بعضهم في نسجه- والذي ساعد المستعمرة الصهيونية على ترسيخ نفسها في محل الفلسطينيين والاستعداد للانقضاض على الجوار.
كان الرد الفاعل يقتضي سحب الاعتراف بالكيان حيثما وُجد، وتجميد اتفاقيات التطبيع، وحشد الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي والجمعية العامة للأمم المتحدة حول خطاب متجدّد أطروحته نزع الشرعية عن الكيان. كان ينبغي التوقف عن حصر النقد في الاستيطان أو «الاحتلال»، والشروع بشجاعة في تفكيك زيف المشروع الصهيوني من أساسه. كان ينبغي مخاطبته بما هو: كمشروع استعماري بلا مسوّغ أخلاقي أو قانوني أو تاريخي. وقد تأسس الكيان بعملية منهجية إجرامية، موثقة في تصريحات مؤسسيه وقادته، قوامها سرقة الأرض التهجير الجماعي والإبادة المعروضة الآن بالبث المباشر في الزمن الفعل. وكان تسليط الضوء على هذه الحقيقة وتبنيها ليشكل لحظة تاريخية لاستعادة العرب ذاتهم مهما كلف الأمر. إن استعادة الذات التي أصبحت هلامية وسائلة يستحق الكلفة.
كان هذا الموقف سيعكس إدراكًا متأخرًا لأثر التطبيع في شرعنة الكيان، بأدواته ووسائله وأهدافه التي لا يمكن إلا أن تكون ضد العرب. وكما هو معروف، فهم قادة الكيان «اتفاقيات أبراهام» وغيرها من الترتيبات الثنائية المعلنة وغير المعلنة على أنها ضوء أخضر لمزيد من الإجرام والتوسع. وكانت أمام العرب فرصة لتفكيك هذه الاتفاقيات، مستندين إلى حقيقة أنّ الخطاب والممارسات الإبادية للكيان تُسقط أي أساس لوجود علاقات طبيعية معه. وكانت العودة إلى خطاب نزع الشرعية ستعيد الاعتبار لحقيقة وعدالة القضية الفلسطينية عالميًا، وتذكير العالم بأن الصراع ليس مسألة حدود أو مستوطنات، وإنما مسألة مشروع استعماري استيطاني إحلالي، وبالتالي إبادي بالتعريف، لا يملك أي حق في أي جزء من الأرض التي يحتلها.
كان ذلك ليعيد تعريف النقاش حول فلسطين من كونه مفاوضات لا تنتهي حول أجزاء من الأرض إلى كونه مسألة عدالة أساسية. وكان سحب الاعترافات، وعزل الكيان دبلوماسيًا واقتصاديًا، وإحياء خطاب نزع الشرعية عنه هو الرد –لا على حديث نتنياهو فحسب، وإنما على الجريمة المستمرة منذ ثلاثة أرباع قرن والتي كان العرب جميعًا ضحية لها. أما أي رد آخر، فسُدى. وسوف يقرؤه الكيان كما اعتاد أن يقرأ ردود فعل العرب: رضوخًا، وإسهامًا على المدى الطويل في تمكين التوسّع ذاته الذي يعلنه نتنياهو ويدينه العرب.
سوف يحكم الناس المعتادون بأن مثل هذه الخطوات غير عملية، ويتحدثون عن اختلال موازين القوى والدعم الغربي الهائل للكيان. ولكن، متى وكيف، ومَن المعنيّ بتعديل الميزان؟! ثمة الآن موقف عالمي نادر، تحقق بدم الفلسطينيين ومناصريهم، جعل حلفاء الكيان أنفسهم يفكرون في التحول من الإدانة اللفظية إلى الإجراءات الملموسة. وثمة الذين قطعوا علاقتهم بالكيان انطلاقًا من وعيهم بطبيعته، وتحالفاته وأهدافه، وانتصارًا للأخلاق والإنسانية. والعالَم كله يخلص إلى أنه كيان مارق، قاتل أطفال، وغير أخلاقي على الإطلاق، وأن الاعتراف به يعني المصادقة على ما يفعل وما سيفعل. متى سيغتنم العرب اللحظات كهذه لقلب الطاولة على عدوهم الأساسي، والمشاركة في، إن لم تكن قيادة الاتجاه الأخلاقي العالمي الجديد –والأهم: تضييق المسافات الشاسعة في الرؤى والتطلعات بين الشعوب والنخب الحاكمة؟
تاريخيًا، ربما تصمد المشاريع الاستعمارية لعقود أمام العنف، لكنها تنهار حين تتلقى شرعيتها ضربة قاتلة. لم يسقط نظام جنوب أفريقيا عسكريًا بل أخلاقيًا، عندما نُزعت الشرعية عن نظام الفصل العنصري دوليًا. واليوم، يشهد الكيان تشققات مشابهة في صورته العالمية، وتتزايد الأصوات التي تفضح جرائمه في غزة، وتوسّع استيطانه في الضفة، وعنصريته المعلنة، وتهديده لمحيطه. وبذلك لن يكون استنطاق العرب لشرعية الكيان عملًا معزولًا بقدر ما سيقوّي بشدة موجة عالمية متنامية تعيد تعريف الصهيونية -كما يعرِّفها عدد متزايد من اليهود أنفسهم- باعتبارها أيديولوجيا استعمارية مارقة وخطيرة على الإنسانية كلها. وكان أي تحرك في هذا الاتجاه سيوجه ضربة قوية ومستحقة لكيان لا يخجل من إعلان أن عربًا يساعدونه، ويوافقونه في ما يفعل.