عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    07-Nov-2019

الثورة السودانية في مهب الأجندات الحزبية - رمضان أحمد بريمة
 
الجزيرة - بعض مضي أكثر من شهرين من تكوين أول حكومة انتقالية بعد نهاية عهد حكومة الإنقاذ الممتد لثلاثة عقود تفاءل الشارع السوداني بمستقبل أفضل يتجاوز فيه الحكم الأطر الحزبية والأيديولوجية الضيقة إلى فضاء الوطن الأرحب، باعتبار أن الحكومة الجديدة وفق ما بشرت به قوى إعلان الحرية والتغيير ستضم التقنوقراط المستقلين. غير ان ثمة عواصف هوجاء تهدد حكومة الدكتور عبد الله حمدوك الانتقالية، بل تكاد تعصف بالثورة نفسها، بعد أن انشغلت الحكومة الجديدة بمعارك جانبية بعيدة تماماً عن مهام المرحلة الانتقالية بينما يستشري الغلاء الفاحش ليتجاوز قدرة المواطن على التحمل.
 
سنتعرف في هذه المدونة على أهم تحديات المرحلة الانتقالية في السودان، بعد التعرف على الوضع المثالي لأبرز خطوات تأمين الوضع الانتقالي استناداً إلى التجارب المماثلة في سياق القارة الإفريقية، ومن ثم السيناريوهات الأكثر توقعاً في الحالة السودانية. الوضع المثالي وفق تجارب الفترات الانتقالية في البلدان التي قامت فيها ثورات شعبية أو حروب أهلية أطاحت بأنظمة قمعية، أو توصلت المعارضة السياسية فيها مع أنظمة الحكم القمعية لاتفاق ينهي النظام القديم وينشيء نظاماً جديداً وفق رؤى جديدة، هو أن تكون هناك حركة سياسية موحدة تحت قيادة مؤحدة وفق رؤية واضحة. هذه الحركة هي الجهة المعنية بصياغة الخطاب السياسي لما بعد الثورة وفق الرؤية المحددة.
 
من أهم سمات هذا الخطاب السياسي:
 
1. التأكيد على مبادىء الثورة
 
2. تعزيز الوحدة الوطنية
 
3. تحييد عناصر النظام البائد ومن ثم استيعابهم وفق أجندات الثورة
 
4. رسم الصورة الذهنية للدولة المثالية التي قامت الثورة من أجل بنائها
 
5. تأسيس مبدأ المحاسبة على أساس الظلم والفساد دون ربطه بالجماعة السياسية التي كانت حاكمة وذلك لحرمان النظام القديم من التعاطف.
 
6. تطبيق العدالة الانتقالية لتعويض ضحايا النظام القديم نفسياً ومادياً، وتضميد الجراح.
 
استطاع حزب المؤتمر الوطني الإفريقي بقيادة نيلسون مانديلا أن يؤسس لدولة جنوب إفريقيا الحديثة مستفيداً من خبرة الأقلية البيضاء وعلاقاتهم الخارجية في بناءً الدولة وفق أجندات الثورة
هذه هي سمات الخطاب السياسي لما بعد الثورة وهي مباديء كفيلة بتوجيه جهود المجتمع في اتجاه واحد لعبور المرحلة الانتقالية إلى المحطة التالية التي سيقرر فيها الشعب مصير البلاد. كما أن هذه المباديء من شأنها تأسيس قيم مجتمعية تحكم تصرفات الأفراد والجماعات في ما بعد الفترة الانتقالية، منها:
 
1. أن الوطن هو الأرضية المشتركة بين مختلف المكونات السياسية وتقع مسؤولية بنائه على عاتق الجميع، وبالتالي فإن الخطوة التالية هي أن تطرح كل القوى السياسية رؤيتها كل على حدة في بناء الدولة ليقرر الشعب ما تراه مناسباً من الرؤى المطروحة، ليصبح الاختلاف السياسي في هذه الحالة اختلاف تنوع وليس اختلاف تضاد.
 
2.  الرأي الآخر ليس بالضرورة عدواً وإنما هو منظور آخر للحقيقة. وبالتالي يكون الرأي الآخر مكملاً للحقيقة، ويكون بالتالي الاهتمام بالرأي الآخر هو السبيل نحو الابداع والابتكار.
اعلان
 
3. المواطن قيمة في حد ذاته غير مشروطة وتزداد هذه القيمة بقدر ما يكتسبه المواطن من مهارات ومعارف للمساهمة في بناء الدولة المنشودة. أهمية هذه القيمة أنها تبرز قيمة المواطن كبشر بعيداً عن قناعاته الفكرية وطبيعة انتمائه، هذا فضلاً عن أن المواطن يصبح محوراً لسياسات الدولة.
 
سمات الخطاب السياسي أعلاه والقيم السياسية التي تتمخض عنها هي التي حكمت بطريقة أو بأخرى التجارب الإفريقية المماثلة كتجارب جنوب إفريقيا ورواندا وليبيريا وسيراليون وموزمبيق وأنغولا والجزائر وغيرها. وكانت النتيجة أن عبرت هذه الدولة المرحلة الانتقالية إلى مرحلة بناء دولة المواطنة والقانون. ففي جنوب إفريقيا وضع مانديلا أساساٌ متيناً لمفهوم التجريم والمحاسبة لنظام الفصل العنصري الذي أذل الأغلبية السودان على مدى نصف قرن تقريباً. فوضع حداً فاصلاً بين السلوك العنصري والظلم والطغيان كصفات بشرية سالبة وبين الأقلية البيضاء. فأصبح الظلم والاستبداد والعنصرية صفات مذمومة محاربة بموجب القانون دون ربطها بالرجل الأبيض، وبالتالي فإن أي سلوك ينم عن نظرة عنصرية فهو سلوك إجرامي بموجب القانون بصرف النظر عن مصدره. وبذلك منع مانديلاً الأغلبية السوداء من ممارسة العنصرية ضد الأقلية البيضاء. وله في ذلك مقولة مشهورة: "أنك إذا ظلمت الظالم بعد سيطرتك عليه فإنك تعطيه المبرر أنك كنت تستحق الظلم".
 
وبهذا استطاع حزب المؤتمر الوطني الإفريقي بقيادة نيلسون مانديلا أن يؤسس لدولة جنوب إفريقيا الحديثة مستفيداً من خبرة الأقلية البيضاء وعلاقاتهم الخارجية في بناءً الدولة وفق أجندات الثورة. المبادئ التي أرساها حزب المؤتمر الوطني الإفريقي جعلت الأقلية البيضاء أكثر وطنية وأكثر ولاءً لجنوب إفريقيا من الأغلبية السوداء. وأما بالنسبة للتجربة الرواندية فقد أستطاع الرئيس بول كاغامي أن يضع أسساً ومباديء حولت مأساة الإبادة الجماعية إلى تلاحم اجتماعي تجاوز الحدود القبلية إلى وحدة مجتمعية جعلت رواندا من أسرع البلدان الإفريقية نموماً وأكثرها ازدهاراً. وبحكم أن الحرب الأهلية التي أزهقت مآت الآلاف من الأرواح كانت أساسها القبيلة، فقد اتخذ الحزب الحاكم ضمن التدابير الانتقالية التي أصبحت فيما بعد قانوناٌ أن السؤال عن القبيلة جريمة.
 
بفضل الخطاب السياسي الرشيد والرؤية الواضحة استطاعت حركات التحرر الإفريقية أن تخرج من أزماتها وخطت خطوات بعيدة في بناء الدولة. البعض منها وصل والآخر يسير على خطى ثابتة، وبذلك ودعت أفريقيا عهود الإنقلابات العسكرية إلى ديمقراطيات مستقرة. الوضع في السودان يختلف إلى حد كبير. فالقوى السياسية - على اختلافاتها - فوجئت بالتغيير ولم تكن في قيادته. حتى تجمع المهنيين الذي كان يضع جدول المظاهرات لم يكن هو من دعا للتظاهر من البداية. والقوى السياسية المعارضة كانت ترتب لعقد لقاءات مع الحكومة في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا والهدف من ذلك هو الدخول في مصالحة مع الحكومة وقد تأجل اللقاء بعد إندلاع الاحتجاجات في ديسمبر.
 
الشارع السوداني انتفض كرد فعل للأوضاع الاقتصادية المتردية وكان أغلى امنياته أن يعلن الرئيس المخلوع تنحيه عن السلطة، ولكن حصل تطور في طموح المحتجين بعد أن اكتسب الحراك السياسي زخماً واسعاً من كل شرائح المجتمع. إذن، لم تكن هناك حركة سياسية منظمة وراء التحول في السودان، تملك رؤية ومشروعاً مما أثر سلباٌ على الخطاب السياسي. لذلك يرى كثير من السودانيين أن الثورة السودانية تعرضت للاختطاف من القوى اليسارية والليبرالية، ويستدلون على ذلك بالخطاب السياسي المهووس بالقضاء على ما يسمى بتيار الإسلام السياسي.
 
مشكلة القوى اليسارية والليبرالية أنها فهمت أن الثورة السودانية هي ثورة في الأساس ضد ما يسمى بتيار الإسلام السياسي وبالتالي صاغت خطابها لشيطنة هذا التيار فجعلت مجرد الانتماء للنظام القديم كافياً للفصل من المواقع القيادية في الدولة بصرف النظر عن مستوى التأهيل. وبلغ بؤس الخطاب السياسي أن قررت بعض مكاتب الحكومة والمدارس طرد المسؤولين بعيداً عن القانون بدعوى أنهم "كيزان" و"الكوز" هو اسم تهكمي يطلق على المنتمين لتيار الإسلام السياسي في السودان. وقد تم فصل مديري الجامعات الحكومية وعمداء الكليات ورؤساء الأقسام ووكلاء الوزارات ومديري المؤسسات الحكومية والسفراء بدعوى انتمائهم للنظام القديم. القوى السياسية اليسارية والعلمانية التي استولت على المشهد السياسي للثورة السودانية تبدو في عجلة من أمرها للاستفادة من المرحلة الانتقالية وتصفية خصومها من إسلاميي السودان فأصبحت تستخدم ما يسمى بلجان المقاومة وهي أصلاً لجان تكونت أثناء الثورة لوضع المتاريس على الطرقات وعرقلة سير المركبات العسكرية التي كانت تسعى لفض المظاهرات بالقوة. هذه اللجان اصبحت تُستخدم في بعض الأحيان لتصفية الخصوم وهناك حالات حدثت وأثارت ضجة كبيرة جداً. الخطاب السياسي المشبع بالحقد والكراهية ابتداءً من - كل كوز ندوسو دوس - صرف الأنظار عن القضايا الأساسية التي كان ينبغي أن تكون محور اهتمام الحكومة الانتقالية.
 
عكس ما كان يتوقع السودانيون تبين أن أغلب وزراء الحكومة الانتقالية ليسوا من التقنوقراط المستقلين وإنما عبارة عن نشطاء سياسيين معروفين بمواقفهم العلمانية الصارخة المناهضة لفكرة أن يكون للدين دور في الحياة السياسية، هذا فضلاً عن أن أغلبهم كان خارج السودان طوال العقود الماضية وبالتالي لا يعرفون حجم التحول الاجتماعي الذي حصل في السودان من حيث الوعي الديني والسياسي. فصدرت منهم تصريحات وتصرفات أثارت ضجة كبيرة جداً في الشارع السوداني، مما وفر مادة دسمة لخصوم العلمانيين واليساريين فاندلعت معارك كلامية ضارية مع خطباء المساجد أبرزهم الشيخ عبد الحي يوسف وغيره.
 
النتيجة الطبيعية لهذا الخطاب السياسي التائه كانت على النحو التالي:
 
انقلب كثير من الثوار ضد الحكومة الانتقالية وانضموا إلى قائمة المنتقدين أبرزهم الشيخ د. مهران المعروف بخطيب الثورة فضلاً عن الصحفيين والنشطاء وغيرهم.
انتشرت الكراهية بصورة مزعجة تنذر بفتق النسيج الاجتماعي المنفتق أصلاً.
أصبحت الوزارات الحكومية مهمومة بتصفية ما يسمى "الكيزان" أكثر من اهتمامها بتحسين الحياة المعيشية.
أصبحت الضائقة المعيشة فوق طاقة المواطن مما ينذر بموجة أخرى من الثورة.
 
قوى إعلان الحرية والتغيير معنية بمراجعة المشهد السياسي وصياغة خطاب سياسي رشيد يؤمن سلامة المرحلة الانتقالية، بالاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى في إفريقيا، علماً بأن حزب المؤتمر الوطني الذي كان حاكماً أعلن على لسان رئيسه المكلف د. غندور تأييده لحكومة الدكتور حمدوك وأورد عبارة جديدة في الساحة السياسية "المعارضة المساندة". فالسودانيون لم يثوروا ضد أيديولوجية معينة أو جماعة سياسية بقدر ما كانت الثورة ضد الظلم والفساد والاستبداد. وإذا انتهج القادة الجدد نفس سياسة النظام السابق في التمكين للمناصرين وإقصاء للمناوئين فإن الموجة الثانية من الثورة ستكون عاتية ونتائجها ستكون وخيمة لأن المشاركين فيها لن يكونوا سلميين في هذه المرة. الفترة الانتقالية بحاجة إلى وحدة وطنية قوية ورؤية سياسية شاملة وتضافر الجهود نحو البناء والتعمير.