عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    23-Dec-2025

"مرايا الأرواح" لبقاعين: القدرة على تحويل الفلسفة إلى تجربة سردية

 الغد- رمزي ناري

 تقدّم رواية "مرايا الأرواح" للكاتب الأردني جريس سالم بقاعين والصادرة عن دار "الآن ناشرون وموزعون؛ مشروعا سرديا – فكريا يتجاوز منطق الحكاية التقليدية، ليقترح على القارئ تجربة وجودية متكاملة، تتحرك بين التأمل الفلسفي، والرمز الصوفي، وبنية "رحلة البطل" كما صاغتها المخيلة الإنسانية عبر العصور. ليست الرواية معنية بسرد ما يحدث بقدر ما تنشغل بكيفية الوعي بما يحدث، وبالسؤال الأعمق: كيف يُعاد تشكيل الإنسان عندما يجرؤ على النظر في مرآته الداخلية بلا أقنعة؟
 
 
هذه الدراسة تحاول قراءة الرواية كوحدة عضوية واحدة، لا كمجموعة فصول منفصلة – تتكون الرواية من أحد عشر فصلا -  مع تتبّع تطوّر الوعي عند شخصية بطل الرواية "آريان"، وتحليل البنية الرمزية والفكرية واللغوية للنص، وصولا إلى تقييمه فنيا ضمن سياق الرواية العربية ذات النزعة الفلسفية.
آريان – من الذات المأزومة إلى الوعي المفتوح
منذ الفصل الأول، لا يُقدم آريان بوصفه بطلا فاعلا داخل حبكة، بل بوصفه وعيا مأزوما يعيش شرخا أنطولوجيا مع العالم. اغترابه ليس اجتماعيا أو نفسيا فحسب، بل وجوديا: العالم فقد نبرته الأصلية، واللغة لم تعد قادرة على الإمساك بالمعنى. هكذا يصبح آريان امتدادا لتقليد أدبي – فلسفي طويل، يبدأ من دوستويفسكي وكافكا، ويمرّ بهيرمان هِسّه، وصولا إلى الرواية التأملية الحديثة.
تطوّر الشخصية لا يقوم على التحوّل الخارجي، بل على تحوّل زاوية الرؤية. من سؤال: "من أنا؟" إلى سؤال: "يف أكون؟" ثم إلى: "ما دوري؟". وهذا الانتقال التدريجي يضعنا أمام شخصية لا تبحث عن خلاص، بل عن صدق وجودي، حتى لو كان هذا الصدق مؤلما ومفتوحا على اللايقين.
- الرحلة بوصفها بنية داخلية لا جغرافية
تعتمد الرواية بنية الرحلة، لكنها تُفرغها من بُعدها المكاني التقليدي. الخروج من البيت، وادي الصمت، الجبل، القرية، الغرفة، المرآة، كلها عتبات وعي لا محطات سفر. الحركة الحقيقية ليست في الجسد، بل في الوعي، وهو ما يجعل الرواية أقرب إلى "سفر داخلي" بالمعنى الصوفي والفلسفي.
اللايقين هو شرط البداية. لا طريق مرسوم، ولا خريطة. وهذا ما يمنح الرحلة صدقها الوجودي؛ إذ تُستبدل المعرفة المسبقة بالثقة في السير ذاته. هنا تلتقي الرواية مع الفلسفات الوجودية والشرقية معا: الحقيقة لا تُمنح، بل تُعاش.
 المونولوج الداخلي وهيمنة الصوت الواحد
تكاد الرواية بأكملها تُبنى على المونولوج الداخلي، أو الحوار الباطني متعدد الأصوات. هذا الخيار الجمالي يمنح النص كثافة فكرية وشاعرية عالية، لكنه في الوقت ذاته يضعف التوتر الحكائي بالمعنى التقليدي. غير أن هذا الضعف ليس خللا بقدر ما هو اختيار واعٍ؛ فالرواية لا تريد إقناع قارئ يبحث عن حدث، بل إشراك قارئ مستعد للتأمل.
الأصوات المتعددة: الطفل، الشيخ، المرأة، المرشد، الظلال، ليست شخصيات مستقلة بقدر ما هي تمثيلات لطبقات النفس، وهو ما يقرّب النص من علم النفس التحليلي (يونغ)، حيث الذات فسيفساء من الأصوات لا جوهرا واحدا صلبا.
 الرمز بوصفه لغة الرواية الأساسية
تشتغل الرواية بمنطق رمزي كثيف: المرآة، النار، الوادي، الجبل، النهر، الكتاب الأبيض، الأبواب، الظلال. هذه الرموز لا تُستخدم للزينة، بل بوصفها أدوات معرفة. المرآة لا تعكس الشكل بل التاريخ الداخلي؛ النار ليست هلاكا بل تحوّلا؛ الظلال ليست شرا بل أجزاء منسية من الذات.
اللافت أن الرموز لا تُغلق على معنى واحد، بل تبقى مفتوحة، قابلة للتأويل، وهو ما يمنح النص عمقا ويجنّبه الوعظ المباشر. القارئ لا يتلقى رسالة جاهزة، بل يُدعى للمشاركة في إنتاج المعنى.
تحضر في الرواية أصوات فلسفية ودينية متعددة: سقراط، نيتشه، بوذا، المسيح، جبران، لاوتسو، سبينوزا… هذا التناص يمنح النص أفقا كونيا، ويؤكد أن تجربة آريان ليست فردية، بل إنسانية عامة.
نجاح الرواية يكمن في أن هذه الأصوات تظهر غالبا كـ أبعاد داخلية لا كمراجع ثقافية استعراضية. الخطر الوحيد - وهو محدود - يتمثل في كثافة الإحالات أحيانا، ما قد يقرّب النص من البيان التأملي. ومع ذلك، يظل التوازن العام محسوبا، لأن الأصوات لا تقدّم أجوبة نهائية، بل تعمّق السؤال.
من سؤال الحقيقة إلى أخلاقيات الحرية
في الفصول الأخيرة، خصوصا "المرآة الكبرى" و"المحاورة الكبرى"، تنتقل الرواية من سؤال المعرفة إلى سؤال المسؤولية. الحرية لم تعد خيارا رومانسيا، بل عبئا أخلاقيا. الحقيقة ليست مطلقا يُمتلك، بل عملية وعي مستمرة تتطلب شجاعة العيش دون يقين.
هذا التحوّل هو ذروة الرواية الفكرية: الإنسان ليس تابعا للتراث ولا قاطعا معه، بل امتدادٌ حيّ له. المعرفة لا تُورث، بل تُعاد صياغتها في التجربة الشخصية.
اللغة والأسلوب
لغة الرواية شاعرية، عالية الحساسية، تميل إلى الجملة التأملية المكثفة. الإيقاع بطيء، لكنه منسجم مع طبيعة المشروع. لا تبحث اللغة عن الإبهار البلاغي بقدر ما تسعى إلى خلق حالة، أو مزاج وجودي مستمر.
قد يشعر بعض القرّاء بالإرهاق بسبب كثافة الأفكار، لكن القارئ المتواطئ مع النص سيجد نفسه داخل تجربة تشبه التأمل الطويل، لا القراءة السريعة.
"مرايا الأرواح" ليست رواية أحداث، بل رواية وعي. لا تقدّم أجوبة، ولا تعد بالخلاص، بل تمنح القارئ شجاعة السؤال. قيمتها الأساسية تكمن في صدقها الوجودي، وفي قدرتها على تحويل الفلسفة من خطاب تجريدي إلى تجربة سردية.
إنها رواية تُقرأ ببطء، وتُلقى في تجمع أدبي لا بوصفها نصا للمتعة السريعة، بل بوصفها دعوة إلى النظر في المرآة: مرآة الذات، ومرآة العالم، ومرآة السؤال الذي لا ينتهي.
وفاء لذكرى طيّبة الذكر السيدة مرثا والدة الكاتب، فقد تبنى كاتبنا لقبا أدبيا اعتمده على الغلاف الخارجي للرواية باسم "جريس مرثا سالم".
 
* كاتب ومترجم عراقي