عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    30-Aug-2020

نظرات وتأملات في ديوان «قصائد حائرة» لعبد الرحمن المبيضين

 

 سعيد يعقوب
 
الدستور- يطرح ديوان الشاعر عبد الرحمن المبيضين، قصائد حائرة، عددا من التساؤلات غير المباشرة، في ديوانه الموسوم بقصائد حائرة، الصادر عن مديرية الثقافة في أمانة عمان الكبرى، مِن مثل الحديث عن مفهوم الشعر والنظم، ومدى أهمية وقيمة شعر المناسبات، والدور الوظيفي الذي يتوجب على الشاعر أن يضطلع به في المجتمع، ونحن إذا تناولنا تعريف الشعر على كثرة هذه التعريفات، وتنوعها بحسب تعدد مصادرها، والمرتكزات الفكرية التي ينطلق منها أصحاب هذه التعريفات، واختلافها في ظاهرها، واتفاقها في جوهرها، إلا أن الجامع المشترك بينها يفضي بنا إلى تعريف لا نختلف عليه، ويقودنا إلى تقرير أن الشعر :هو فن تعبيري، له أركانه، وشروطه، كما تعارف عليه العرب، عبر حقب متطاولة من الزمان، اللغة جسده بأدواتها الفنية المختلفة، نحوا وصرفا وبلاغة وعروضا وقافية، والفكرة روحه، والعاطفة نبضه، والصورة والمخيال جناحاه، وكما أننا لا نستطيع تغيير أسماء الكائنات، فنقول عن الشجرة أنها نجمة أو الجبل أنه نهر مثلا، فكذلك الشعر لا يمكن أن نسمي جنسا أدبيا بشعر، إلا إذا تحققت أركانه وعناصره التي ذكرناها.
 
ويحسن بي أن أذكر هنا أن ما يطلق عليه (قصيدة النثر) هي جنس أدبي، كبقية الأجناس الأخرى، من خطبة ومقامة ومقالة ومناظرة ووصية وقصة ومسرحية، وغير ذلك، ولها امتداد وجذور في تاريخنا الأدبي، وموروثنا الثقافي، كما نرى ذلك في نشيد الإنشاد، أو كتابات النفري، أو التوقيعات، أو كتابات بعض المتصوفة، وهي جنس أدبي ترسخ وتعمق لدينا بسبب المثاقفة مع الأمم والشعوب الأخرى، والتلاقح الفكري، وظهور الترجمة، والاطلاع على شعر الأمم المجاورة لنا شرقا وغربا، وله كتّاب مبدعون، وأن صلتنا بهذا اللون الأدبي نلحظ تباشيره في كتابات جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ومي زيادة قبل أن يطلع مثقفونا على كتاب سارة برنار بمدة طويلة من الزمان، وهو كغيره من أجناس الأدب الأخرى، قبيحه قبيح، وحسنه حسن، والإشكالية في هذا الجنس الأدبي تكمن في المصطلح، فلا يعقل أن نجمع بين متناقضين، وعلينا تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية، ولا بأس من أن يقال لهذا النوع من الكتابة ويطلق عليه اسم (نثيرة) يدفعني هنا لتناول ذلك ما يقوله أصحاب الحداثة وما بعد الحداثة عن الشعر العربي الأصيل، إنه نظم، وليس شعرا، فهم يغفلون أن المقصود بالنظم والمنظومات الشعرية أنواع مخصوصة من الشعر، جاءت لأهداف تعليمية بحتة، ومساعدة على الاستظهار والحفظ، ، في أبواب كالنحو والفقه والفلسفة والمنطق والتاريخ، وغيرها ومن الأمثلة عليها ما فعله ابن مالك في ألفيته الشهيرة، التي وضع بها قواعد اللغة نحوها وصرفها في ألف بيت من الشعر، لا تزيد بيتا ولا تنقص بيتا، وهو عمل عبقري يستحق صاحبه عليه الثناء والتقدير، لا الحط من قيمته باعتباره نظما.
 
إذن فهناك فرق بيِّنٌ واضح، بين الشعر الذي يعالج به الشاعر أمرا ذاتيا، أو موضوعيا تتدخل في عاطفته وشعوره وفكره، وبين ذكر الحقائق المجردة والمعلومات الجامدة، لحفظها واستذكارها، ولسهولة استرجاعها عند الحاجة، فلا يصح أن يقال عما يكتبه الشاعر إنه نظم للحط من قيمته والاستخفاف به، ما دام يعبر به عن عواطفه ومشاعره، ويتحرك فكره ليظهر رأيه وموقفه تجاه القضايا المتعددة، والأحداث المختلفة، التي يواجهها في الحياة ثم إنهم أي أصحاب الحداثة، وما بعد الحداثة، يهاجمون شعر المناسبات ويخرجونه من دائرة الشعر، لأن الشعر عندهم إنما هو تدفق لسيل من الكلمات التي تعبر عن حالة من القلق والتشظي، والضياع والتهويم في عوالم هلامية، لا يربط بينها رابط، ولا تقوم بين عناصرها أدنى صلة، بل لا يفهمه من يقوله كما صرح بذلك عدد ممن يكتبونه أدونيس نموذجا، وهو انسلاخ للفرد من المجتمع الذي يعيش فيه، ومفارقته لهموم وآلام وآمال أبناء مجتمعه وأمته، فلا دور للشاعر، ولا انتماء لما يدور حوله، لأن كل ما يقوله هو عبارة عن قبض ريح، لا هدف ولا فكر ولا رسالة ولا وظيفة له، بل إن المجانية هي أحدى أهم ركائزه التي يقوم عليها، فهل هذا هو المطلوب من الشاعر الذي يملك القدرة على التعبير، حين افتقدها سواه، والقادر على صياغة الوجدان الجمعي، والعقل الكلي للأمة، من خلال التأثير في القلوب والعقول، باعتباره طليعيا رائدا متنورا، أما أنا فلا أعتقد ذلك، وأرى أن على الشعر أن يستكمل وظيفة الأنبياء، ومهام الرسل والفلاسفة، والمصلحين والتربويين في المجتمع، القائمة على إعلاء القيم، والمثل وبناء الإنسان والتوجيه للخير، والتحذير من الشر، وإنارة سبل الحياة أمام الإنسان.
 
ونحن حين نستعرض في أذهاننا أروع القصائد وأجملها، نجد جلها من شعر المناسبات، فها هي قصيدة أبي تمام في فتح عمورية، وقصيدة ابن الرومي في رثاء ولده، وقصيدة المتنبي في الحدث الحمراء، وقصيدة أبي البقاء الرندي في رثاء الأندلس، وقصيدة الشريف الرضي في رثاء والدته، وقصيدة شوقي في نكبة دمشق، بين أيدينا تقوم شواهد حية، على ذروة النضج الفني للشعر، أليس كل ذلك من شعر المناسبات، فمن يستطيع أن يقلل من جمال تلك القصائد، ومن خلودها، إلا إذا كان متهما في ذوقه، وتنقصه الدراية بمواطن الجمال في الشعر، ولكننا نقول إن الشعراء طبقات، ولا يمكن أن يكون الشعراء جميعا في مستوى واحد، من حيث الجودة والبراعة، لأن ذلك يعود لأسباب وميزات، تختلف من شاعر لآخر، كمدى الثقافة، ومستوى وعمق الموهبة الشعرية، وطول التجربة، وشدة الذكاء، وقدرته على سبر أعماق النفس الإنسانية، وإطلالته على تجارب الآخرين، ومعرفته بثقافات الأمم والشعوب الأخرى، إن كل مسألة من هذه المسائل تحتاج لبحث طويل، ولكنني أمر عليها مرور الكرام، فالوقت أضيق مما نريد ومما هو متاح لنا، في هذه العجالة، للحديث عن ديوان شاعرنا عبد الرحمن المبيضين، والذي كان لا بد من المرور بتلك المسائل، والحديث عنه لفهم الشعر في هذا الديوان، والدخول إلى فضاء الرؤية والتشكيل لدى الشاعر.
 
جاءت قصائد هذا الديوان من النمط العمودي، مُؤْثِرَةً طريقة العرب في القول الشعري، ملتزمة بالوزن والقافية، وهي في جلها قصائد مناسبات، تظهر لنا شدة ارتباط الشاعر بوطنه وأمته، وانفعاله مع أحداثها، وتجلو انتماءه لمسقط الرأس الكرك، وأسرته الصغيرة، ووطنه وشعبه وأمته، وعقيدته الدينية، معبرة أصدق تعبير عن خطرات نفسه، وخلجات روحه، ممثلة أدق تمثيل لما تؤمن به نفسه المرهفة من قيم ومثل وأخلاق إنسانية نبيلة، فشعره يرسم ملامح نفسه تماما، كما هي دون رتوش ولا تزاويق، فجاءت قصائده هادئة مطمئنة، تصدر عن حس مرهف، وعقل نيّر، وفكر متزن، ولو استشارني صديقي الحبيب الشاعر عبد الرحمن المبيضين في عنوان ديوانه لاقترحت عليه أن يكون عنوانه: قصائد مطمئنة، أو شيئا من هذا الباب، لا قصائد حائرة لأننا نرى فيها كل ما يدعو للسكينة والهدوء، والانسجام والطمأنينة، والثبات والاستقرار، وهذه جميعها إنما مردها في الواقع لنفس الشاعر المطمئنة الواثقة الهادئة، التي تفيض عذوبة ورقة المجبولة على حب الخير، والمفطورة على النقاء والعطاء والترفع عن الصغائر وسفاسف الأمور.
 
وشاعرنا قريب المأخذ، سهل التناول، بعيد عن التعقيد والتهويل، والغموض يتناول ما تقع عليه يده، دون عناء فلا يجهد نفسه بمطاردة الصور، ولا يجهد قارئه في تتيع هذه الصور وفك طلاسمها، وحل رموزها، فهو تلقائي عفْوي في التعبير، يحرص كل الحرص على سلامة اللغة، وأركان الشعر المتعارف عليها، ولكن هذا الحرص الشديد لم يجنبه الإفلات، أحيانا قليلة، من عثرة هنا، أو كبوة هناك، مما لا يكاد أن يُلْتفت له، والتي لا يخلو منها شعر شاعر من الشعراء، مهما علا شأنه، وارتفعت قيمته، وقد وضع الدكتور الشاعر جميل علوش، رحمه الله، في مزالق الشعراء كتابا طريفا يعالج ذلك، ويبقى هذا الديوان معبرا أصدق تعبير، عن عقل وقلب الشاعر عبد الرحمن المبيضين يعكس حبه لوطنه وأمته ومجتمعه، ووفائه للقيم التي ينتمي إليها، وهذا حسبه وهذا حسبنا منه، فلا هو يدعي أنه من عمالقة الشعر، ولا هو يقول عن نفسه ما ليس فيه، كما يفعل كثيرون غيره، ممن يلبسون عباءات فضفاضة، لا تتناسب مع أحجامهم الإبداعية الحقيقية، أو ممن يصنعون لأنفسهم هالات زائفة، أو يصنع لهم أصدقاؤهم من هذه الهالات الزائفة.