أزمة "هوس" كتابة المقالات الصحفية .. ضجيج بلا صدى
عمون
أ.د. خلف الطاهات
في دهاليز الحبر وفضاءات المنصات، تتنامى ظاهرة قد لا تبدو سلبية في ظاهرها، لكنها تثير التساؤل عند التأمل العميق: هوس الكتابة الصحفية، ذلك الإصرار المبالغ فيه من بعض الاشخاص على التواجد المستمر، وربما المُفرط، على أعمدة الرأي وصفحات الصحف والمواقع والمنصات الاجتماعية، وكأن الكتابة صارت ملاذًا وجوديًا، أو صكَّ إثبات لا بد منه للذات والآخرين.
ليس الحديث هنا عن الزملاء الكُتاب الصحفيين المحترفين ممن جعلوا من الصحافة رسالة وفنًا وموقفًا، وصاروا مع مرور الوقت بوصلة للرأي العام، ورافعة للوعي الجمعي، بل عن فئة تكتب بدافع الظهور لا التأثير، وبهمّ الإلحاح لا الوعي، حيث يتحول المقال إلى استعراض ذاتي، أو وسيلة لحجز مكان في الفضاء العام، بصرف النظر عن عمق الفكرة أو جودة المضمون. بكل تأكيد ثمة نماذج من الخبراء وأصحاب التجربة الثرية من غير الصحفيين ممن اثروا الأفكار وعمقوا وعي الناس حينما عبروا بتجرد كبير وبصدق الخبرة والاحساس وخاطبوا الناس بحروف الوعي وبنوا رصيدا معقولا من "الثقة" لدى العامة.
لكن ما نشهده اليوم من سيل جارف من المقالات اليومية، وتزاحم الأسماء على أعمدة الرأي، وتكاثر مدّعي الفكر والحقيقة، يعيد الذاكرة إلى ما قبل أكثر من خمسة عشر عامًا، حين قال لي رئيس تحرير صحيفة يومية بارزة آنذاك – وهو اليوم أحد المسؤولين في قطاع الإعلام – قولًا لا يُنسى " عندي قائمة كتاب مقالات تكفي لأربع دول".
هذا الهوس له دوافع متعدّدة، قد تتداخل فيها النفسية بالشخصية، والاجتماعي بالمهني. فمنهم من يكتب بدافع الاعتراف، كأن الكتابة وسيلته الوحيدة للصراخ في مجتمع لا يسمعه، ومنهم من يتوسل المقال ليُقيم لنفسه مجدًا ما، أو ليبقى في ذاكرة النخبة ولو من باب التذكير. وثمة من يرى في الكتابة الصحفية بابًا للسلطة الناعمة، يوازي في مفعوله الكرسي أو المنصب.
في كثير من الحالات، لا يكون الدافع مضمونًا ولا الرسالة متقنة. فالكتابة إن لم تُبْنَ على معرفة، ولم تُصغَ بمسؤولية، تتحوّل إلى ضجيج لا صدى له. وقد ينقلب الكاتب، دون أن يشعر، إلى صانع محتوى مكرر، أو خطيب في ساحة بلا جمهور. والأخطر، حين يتحوّل إلى ناطق غير رسمي باسم الجميع، وهو بالكاد يتقن مخاطبة ذاته.
اللافت أن هذا السيل الجارف من المقالات كما ذكرت لم يعد حكرًا على الكُتاب الصحفيين أو المتخصصين، بل بات كثير منها يحمل توقيعات لمسؤولين سابقين من وزراء وأعيان ونواب وغيرهم، ممن وجدوا في الكتابة الصحفية وسيلة لإعادة التموقع في المشهد العام، أو للبقاء في دائرة الضوء، حتى وإن تطلّب الأمر الاعتماد بصورة مبالغة كما يفعل البعض في كثير من مقالاتهم بالاعتماد على أدوات الذكاء الاصطناعي مثل “ChatGPt” لإنتاج نصوص ومقالات بمظهر جذاب، لكنها تفتقر في اغلب الأحيان لروح الكاتب والتجربة الإنسانية المباشرة.
وهنا تبرز الحاجة لإعادة الاعتبار للكتابة الجادة، وللكلمة التي تُكتب بإحساس عميق، لا مجرد رغبة في الحضور الرقمي. فالكُتاب الحقيقيون لا يتسابقون إلى النشر، بل يتأنّون في الكتابة، ويختبرون صدق جُملهم كما يُختبر الذهب على النار. والكاتب الحقيقي هو من يكتب عندما يكون لديه ما يُقال، لا حين "يظن" أن عليه أن يقول شيئًا كل يوم.