"نشطاء غزة".. صوت الأمل في عتمة الحرب
الغد-تغريد السعايدة
"من قلب الحدث"، تحولت حسابات نشطاء يعيشون في غزة من منصات تزرع الابتسامة وسط الحصار، إلى منصات للنضال والمقاومة ونقل الحقيقة كما هي وسط الحرب والظلام.
لم تعد حسابات "إنستغرام" للمئات من النشطاء من سكان غزة، ممن كانوا يبثون الضحكات و"النهفات"، كما كانت عليه، بل باتت مصدرا للأخبار من تحت القصف والركام.
هؤلاء النشطاء أصروا على أن يقولوا للعالم أجمع: "نحن هنا، نعيش المعاناة والحرب الإسرائيلية الوحشية التي تدفع ثمنها عائلاتنا وتتهدم فيها بيوتنا.. لكننا لن نستسلم أبدا طالما الروح فينا".
الآلاف ممن اعتادوا مشاهدة تلك المقاطع التي يبثها الفنان الفلسطيني محمود زعيتر منذ سنوات، يطلقون العنان للضحكة من قلب غزة رغم كل الجراح، إلا أنهم، كما يصفون أنفسهم "يحبون الحياة ما استطاعوا إليها سبيلا"، باتوا اليوم يبحثون عن "قصة، موقف، وصف لواقع الحال، وإن كان بطريقة فيها لمحة فكاهية أحياناً".
زعيتر، يعد أحد الوجوه الضاحكة، له مئات المقاطع المصورة في أحياء غزة وشاطئها منذ سنوات؛ حيث اختار أن يكون "كوميديان" في مجتمعه، عدا عن كونه قدم برامج ساخرة وفكاهية، لطالما أضحكت الآلاف منذ سنوات.
ولكنه الآن يحكي معاناة غزة، من خلال الكاميرا التي يحملها ويجول بها في شوارع غزة، بل ويتعمد أن يكون بين الركام و"طوابير الحصول على الماء والخبز يومياً".
ما يقارب 900 ألف متابع يشاهدون يومياً حساب زعيتر، كان المحتوى المقدم معتادا، ولكن تغير المضمون، كما تغيرت أشكال النشطاء، وسط ما يحدث من عدوان وحشي في غزة، وجراح وآلام لا تلتئم.
ووسط كل ذلك، لا يخلو المحتوى المقدم من موقف فكاهي عابر، يسلط زعيتر الضوء عليه، ليرسم الابتسامة وسط الدموع والدماء.
وعلى الرغم من "بساطة التفاصيل"، إلا أن زعيتر وجد فيها محتوى يوصل فيه رسالة غزة، فما بين وقوفه في صفوف من ينتظرون دورا لحصولهم على الخبز والماء، ويشرح ذلك "ساخراً باكياً"، بأنه لا ينقطع عن ممارسة الرياضة في وسط حرب غزة، ولكن يتضح أن الرياضة اليومية لكل سكان غزة باتت في وقوفهم وجلوسهم وركضهم خلف "البحث عن أبسط مقومات الحياة".
وبلهجته الفلسطينية البسيطة، يعتبر زعيتر نفسه الآن ناقلا للمعلومة، يحاول البحث بين الركام عما يبعث السعادة في قلوب الأطفال والكبار، وهو الذي اعتاد أن يخاطب جمهوره من خلال "المقاطع الفكاهية التي يقدمها بعبارة أهلاً وسهلاً بكم من راديو السعادة"، وهذا ما دفعه إلى أن يعود لنشر السعادة وزيارة الأطفال في مراكز الإيواء بمدارس الأنروا، وعمل أنشطة ترفيهية لهم، علها تسهم في عودة الضحك مرة أخرى.
وكغيره من سكان غزة، تغيرت ملامح وجهه عما قبل 7 أكتوبر، وقد لاحظ متابعوه ذلك، بل وإن بعضهم تعمد عمل مقطع فيديو يبين "زعيتر قبل وبعد"، في دلالة على آثار الحرب التي بدت واضحة على محياه ومحيطه، ولكنه ليس الوحيد، فهناك المئات من النشطاء في غزة تغيرت حياتهم وانقلبت رأساً على عقب، بل والأصعب من ذلك "استشهاد بعضهم، وخاصة من الأطفال".
ولا يمكن العبور عن ناقلي الحقيقة والواقع في غزة، دون الحديث عن الشاب المصور معتز العزايزة، الذي فقد ما يقارب خمسة عشر فرداً من عائلته خلال نار الحرب المسعورة؛ حيث تخرج العزايزة في تخصص الصحافة والإعلام، وعمل في مجال التصوير الصحفي والتوثيق في إحدى المنظمات الدولية العاملة في غزة، بيد أنه الآن بات من أكثر النشطاء في "توثيق بشاعة الحرب" ونقلها للعالم، حتى بات حسابه الشخصي على مواقع التواصل الاجتماعي الأكثر متابعة في الآونة الأخيرة.
صالح الجعفراوي الذي يصف نفسه من خلال حسابه على "إنستغرام" بأنه "منشئ محتوى فيديو"، يعيش في غزة وكان قبل سنوات قليلة وأشهر معدودة، ينشر مقاطع يقدم فيها أناشيد بصوته الشجي، الذي سمعه كثيرون منذ أيام، وبعد القصف الإسرائيلي الوحشي على القطاع، وهو ينوح بكاءً على ما يقوم به من توثيق لدمار هائل، وإصابات مدمرة، وجثث غابت تفاصيلها لأطفال استشهدوا.
يدون صالح المئات من المقاطع، لم يعد حسابه كذلك عادياً، لشاب غزي، يمر يومه مرور الكرام، وإنما بات مصدرا للملايين، كونه ينقل ما يحدث في المستشفيات، وفي مناطق النزوح، يبكي تارة، ويضحك تارة أخرى مع الأطفال، يصف نفسه بأنه مستعد لأن يكون ضمن قوافل الشهداء في أي وقت، بل ويتجهز لها، كما ظهر في أحد المقاطع.
تحول صالح الآن إلى صحفي، مطبقاً مصطلح "المواطن الصحفي"، الذي ينقل الحدث، ويشارك به، وينقل الجرحى، ويشارك في الحد من خوف الأطفال قدر الإمكان، ويمازحهم، ويصور كل تلك التفاصيل، وينقلها للعالم، بعد أن كان يتجهز للكثير من الأعمال الفنية الإنشادية التي يقدمها لجمهوره.
ولكن لم يكن يعلم أنه سيتحول صوته إلى ناقل للحقيقة والواقع المؤلم منذ انطلاق الأحداث، ولكنه ما يزال متشبثاً بالأمل الذي يعاند "الألم".
اليافع عبد الرحمن بطاح والمعروف بـ"عبود" من سكان غزة، كان له كذلك نصيب من هذه المشاهدات التي تجاوزت الملايين، لبعض المقاطع التي يقوم ببثها كلما سنحت له الفرصة، بسبب انقطاع البث وشبكة الإنترنت، وهو الذي تميز كذلك بكونه يبث بضع كلمات تصف الحال، وتعطي للمشاهد انطباعاً عما يدور حوله مما لا تستطيع عدسات القنوات الفضائية بثه.
قد يكون عبود، من أكثر النشطاء بساطة في الشرح والنقل للتفاصيل، كونه ما يزال صغيرا في السن، ولكن طريقة التعبير والحديث العفوي، والكلمات الساخرة، تجعل مما يقدمه فسحة للأمل والضحك والبسمة للقاطنين داخل وخارج غزة، وتظهر مدى الروح المعنوية العالية لدى سكان غزة، رغم كل ما يحيط بهم من هدم لمقومات الحياة.
ولكن ما يبعث على الحزن أيضاً، ما رصده ناشطو مواقع التواصل الاجتماعي من استشهاد لعدد ممن كانوا يقدمون محتوى خاصا بهم، وبنوا طموحاً بأن يكونوا صوت غزة خارجها، ومنهم أطفال لا تجاوز أعمارهم الرابعة عشرة، غادر منهم كثيرون، وما يزال هناك آخرون يمطرون الكون بـ"وابل من من الأسئلة.. أين الإنسانية ولماذا الصمت.. ومن قتل فرحتنا وضحكتنا؟!".