الغد-عزيزة علي
الزرقاء – في ندوة "حيرة المترجم بين التغريب والتوطين"، تم التطرق إلى أحد أبرز التحديات التي يواجهها مترجمو الأدب، وهو التوازن بين الوفاء للنص الأصلي والإبداع في اللغة المستهدفة.
الندوة التي أقامتها رابطة الكتاب الأردنيين، فرع الزرقاء، للشاعر والمترجم نزار السرطاوي، وأدارها محمد رمضان الجبور أول من أمس، قدم المحاضر تعريفا للترجمة باعتبارها عملية نقل النصوص من لغة إلى أخرى، مع الحفاظ على المعنى والأسلوب ومراعاة الفروق الثقافية، مؤكدا أنها وسيلة لنقل الأفكار بدقة وملاءمة ضمن سياق لغوي ثقافي.
وتطرق السرطاوي إلى أهمية الترجمة في تبادل المعرفة، تعزيز التفاهم بين الثقافات ونشر الوعي بالقضايا العالمية، مع الإشارة إلى أن الترجمة الأدبية تتطلب حسا لغويا عميقا وثقافة واسعة وذائقة فنية دقيقة، فضلا عن قدرة المترجم على الابتكار من دون التفريط في المعنى الأصلي.
وأضاف أن للترجمة دور أساسي في حياتنا، فهي، وسيلة للتواصل بين الثقافات وتعزيز التفاهم بين الشعوب بمختلف اللغات، أداة لتبادل المعرفة في مجالات الأدب والفكر والعلوم والتكنولوجيا، وهي قناة للتبادل الثقافي والتعرف إلى الرؤية والتجارب الإنسانية الجديدة، وهي عنصر مهم في عصر العولمة على الصعيدين السياسي والتجاري، وسيلة لنشر الوعي بالقضايا العالمية. باختصار، تشكل الترجمة جسرا يصل بين اللغات والثقافات، فيتعمق التفاهم ويدعم التعاون بين الأمم.
وقال "إن أستاذ الترجمة والمفكر الأميركي لورنس فِنوتي أدخل اصطلاحي التوطين والتغريب إلى حقل الترجمة. فقد عرف التوطين بأنه استراتيجية تعتمد أسلوبا شفافا وسلسا يخفف غرابة النص المترجم من لغة أجنبية، في حين عرف التغريب بأنه استراتيجية تسمح للنص المترجم بكسر تقاليد اللغة المستهدفة، عبر الإبقاء على قدر من غرابة النص الأصلي".
ويعد التوطين استراتيجية تنظر إلى اللغة بوصفها أداة للتواصل، إذ يطوع النص المترجم ليصبح أكثر سلاسة وقابلية للقراءة، عبر التخلص من آثار اللغة الأصلية وما قد تحمله من تعابير غير مألوفة، وهو ما يمنحه الطلاقة والشفافية.
أما التغريب، فيسعى إلى الحفاظ على الخصوصية الثقافية للنص الأصلي، مذكرا القارئ دائما أن ما يقرؤه ليس هو النص الأصلي. ولتحقيق ذلك، قد يبقي المترجم بعض المفردات أو التراكيب كما هي في لغتها الأم، مكتفيا بتغيير البنية النحوية، مما يجعل القارئ يشعر بالغربة ويدرك الطابع الأجنبي للنص.
وهكذا، فإن التوطين يطوع النص المترجم وييسر التواصل، مانحا القارئ شعورا بالراحة أثناء القراءة. غير أن فنوتي يرى الأمر على نحو مختلف، إذ يعتبر أن فقدان هذه السلاسة لا يضعف النص، بل يمنح القارئ فرصة لاكتشاف تجربة جديدة لها جوها الخاص، والتعرف إلى ثقافة مغايرة. بل إن الخصائص اللغوية للنص الأجنبي قد تثري تعابير القارئ، وتساهم في تجاوز بعض جوانب الضعف في ثقافته.
ورأى أن المترجم قد يواجه المواقف التي تفرض عليه استخدام أسلوب التوطين مراعاة للجمهور. فقد يختار مثلا استبدال كلمة "حكومة" بكلمة "نظام" فيقول: "النظام السوري" عند مخاطبة جمهور معارض، أو يترجم مترجم فلسطيني كلمة "قتل" إلى "استشهد"، في حين يفعل المترجم العبري العكس تماما.
وقال السرطاوي "إن المترجم الذي يميل إلى التغريب هو مترجم وفي يسعى إلى أن ينقل النص نقلا أمينا ينطوي على تطابق كبير مع الأصل. والسؤال الذي يتكرر هو: هل يعتبر ذلك أمرا محمودا، فدور المترجم الذي يسير على هذا النهج دور سطحي، يفتقر إلى العمق والإبداع"؟
ورأى المحاضر، أن هناك من يرى أن الترجمة ينبغي أن تحافظ على النص الأصلي شكلا ومضمونا قدر المستطاع، بينما يتوقع آخرون أن يخاطب النص المترجم وجدانهم وثقافتهم ليكون أقرب إلى فهمهم وانسجامهم. الفريق الأول ينشد إثراء ثقافته عبر التلاقح بين اللغتين، فيما يرغب الثاني في نص بلغته وثقافته هو. لكن خصوصية اللغة والثقافة تظل عقبة أمام مترجم الأدب، إذ يواجه تحديات متكررة منها: "في ترجمة الشعر: كيف يتعامل مع الوزن، ونمط القافية، والبحر الشعري؟ في النصوص المعقدة والحداثية: كيف ينقل الانزياحات اللغوية والتجريب والغموض الذي لا مقابل له في اللغة الأخرى؟
أما التوطين في ترجمة الأدب، فيدور حول إمكانية تقديم نص مترجم يبتعد عن الأصل، لكنه يظل خلاقا. وغالبا ما يضطر المترجم إلى هذا الابتعاد لأسباب تتعلق بالوزن أو القافية. غير أن هذا الابتعاد سلاح ذو حدين: فهو من جهة يمنح المترجم مساحة واسعة للإبداع والتصرف بالنص، ومن جهة أخرى قد يتيح له المبالغة في التحرر حتى يفقد النص أصالته.
أما الحالة الثانية، حيث يطلق المترجم العنان لقلمه فيحرف ويضيف ويحذف، فأبرز مثال عليها المترجم المصري الراحل دريني خشبة، الذي نقل الإلياذة والأوديسة نثرا إلى العربية. وقد أخذ عليه أنه حذف بعض المقاطع ولخص بعضها الآخر، وأن ترجمته حفلت بعبارات مستمدة من القرآن الكريم والشعر والأمثال العربية، على نحو قد يعده البعض خروجا عن السياق.
لا شك في أن مساحة الإبداع في الابتعاد عن النص الأصلي تتناسب طرديا مع مقدار القيود التي يفرضها المترجم على نفسه. وتبلغ هذه المساحة أقصى حد لها في الشعر العمودي، باعتباره أكثر الأشكال الشعرية صرامة، من حيث البناء. إذ على المترجم الالتزام بالبحر والقافية التي يختارها للنص. وإذا لم تسمح قيود الوزن أو القافية باستخدام مفردات أو عبارات مقابلة للأصل، يضطر المترجم إلى البحث عن بدائل تقارب الفكرة، وهنا يظهر إبداعه وقدرته على التصرف بالنص.
أما في قصيدة التفعيلة، فتتيح الحرية الجزئية أو الكاملة من قيود طول السطر والقافية للمترجم أن يكون أكثر وفاء للنص الأصلي. بالمقابل، تمنح الترجمة النثرية قدرا أكبر من الحرية، إذ لا يلزم المترجم الوزن أو القافية، مما يتيح له الحفاظ على معاني النص وروحه، وإبراز قدراته اللغوية والأدبية والثقافية، وهو شكل آخر من أشكال الإبداع المترجمي.
وأشار إلى أن مساحة الإبداع في ترجمة الشعر تكون أوسع في القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة مقارنة بالنص النثري. ومع ذلك، يجب على المترجم الذي يختار ترجمة قصيدة ملتزمة بالأوزان والقوافي، أن يكون مستعدا للتحديات التي تفرضها هذه القيود.
لا يكتمل فهم المضامين السابقة من دون إيراد بعض الأمثلة من الترجمات الأدبية الحديثة، شعرا ونثرا، التي اخترتها من بين آلاف النصوص التي اطلعت عليها. وقد اقتصرت على الترجمات من اللغة الإنجليزية، باعتبارها مجالا عمليا في الترجمة.
عند الحديث عن الترجمة النثرية، يتحرر المترجم من قيود الوزن والقافية، مما يتيح له الاقتراب أكثر من النص الأصلي. غير أن سلوك المترجمين يختلف حسب مدى إلمامهم باللغتين والثقافتين. فبعضهم، إن لم يكن متمكنا من الوزن، يكتفي بما يعتبره قافية، وهو في الحقيقة مجرد سجع مصطنع، فيلوي النص ليضعه في نهاية السطر. كما يلجأ بعضهم إلى تغيير النص من دون مبرر ظنا منهم أنهم يزيدونه شعرية. وأكثر الأخطاء شيوعا تتمثل في سوء فهم المفردات أو العبارات الأصلية.
لقد تبين مما سبق، أن مترجم الأدب يحتاج إلى تدقيق شديد فيما ينقل ويكتب، وأن يبحث ويستقصي حتى يصل إلى المعاني المناسبة. فترجمة الأدب ليست كأي ترجمة عادية؛ فهي عملية تتطلب حسا لغويا عميقا، وثقافة واسعة، وذائقة رفيعة، وعملا دؤوبا ومخلصا، وقدرة على البحث المعمق والتحمل.
سواء أكان المترجم ينقل الأدب إلى لغة أخرى، فإن عمله ينطوي على إبداع كبير. والصورة المثلى للترجمة هي الجمع بين الوفاء والإبداع، أو بالأحرى بين التوطين والتغريب، وهما خاصيتان قد يظن ظاهريا أنهما على طرفي نقيض.