عن ترمب والجامعات*د. حسام زمان
الشرق الاوسط
تصوّرُ الحملات الإعلامية الحادة والمتواصلة ما يحدث بين ترمب والجامعات الأميركية العريقة، على أنَّه نهاية القصة للريادة العالمية لمؤسسات التعليم العالي الأميركية في مجال التعليم والبحث والابتكار، في صورة سوداوية تقدم ما يحدث على أنَّه نوع من الانتحار العلمي والحضاري، الذي تدفع فيه الإدارة الأميركية هذه المؤسسات نحو الهاوية، تحت شعارات السيطرة عليها والتدخل في سياساتها والتحكم في أمورها، وكالعادة تنعكس هذه الحملات سواء على مستوى وسائل الإعلام الأميركية والأوروبية العامة (المعادية سياسياً وآيديولوجياً لترمب)، أو تلك المتخصصة مثل The Chronicle of HE وInternational University news، وترددها بعمومياتها كثير من وسائل الإعلام العربية من غير إشارة إلى خلفيات هذه الصراع وتحديد أطره على أرض الواقع، حتى بدأ البعض يتحدَّث بأسىً أو شماتة حول غروب شمس الجامعات الأميركية. وللأسف الشديد فقد غابت وجهة النظر الأخرى تماماً في هذا الموضوع، كما في قضايا أخرى، مثلما أشار الأستاذ مشاري الذايدي في مقالة سابقة «ترمب بلا صوت في ديارنا».
وعند المتابعة لهذه القضية تحديداً فإنَّ ذلك يتطلَّب فهم مقدمات وخلفية هذا الصراع، الذي بدأ منذ تسعينات القرن المنصرم، مع عودة التوجهات الليبرالية واليسارية بوضوح في كثير من الجامعات الأميركية (التي كانت قوية فترة الستينات الميلادية) ثم تمددها وسيطرتها على كثير من مفاصل هذه المؤسسات أكاديمياً وإدارياً وبحثياً خلال العقدين الأولين من هذا القرن، ومحاولة فرض عدد من السياسات «الثقافية»، التي من أبرزها ما يسمى إحياء سياسات التمييز الإيجابي في القبول (تخصيص حصص في القبول والتوظيف للملونين والأقليات بتعريفاتها المختلفة، بما يشمل غير محددي الهوية الجندرية، وغيرهم، بغض النظر عن مؤهلاتهم التعليمية) وما يسمى سياسات التنوع والإنصاف والشمول (DEI)، التي تركز إضافة إلى ما سبق على حماية حقوق هذه المجموعات، والذَّبِ عنها، بل والعمل على تعديل ما يوجد في المناهج التعليمية، بما يوحي بالتمييز ضد الملونين أو غير محددي الهوية الجندرية او المتحولين جنسياً. ولم تعد هذه القضايا مجرد توجهات فكرية، بل تحولت إلى سياسات مؤسسية، لها مكاتب وإدارات تقوم على رعايتها وحمايتها، بل تعدَّى الأمرُ حتى وصل إلى أجندة عدد من مؤسسات الاعتماد الأكاديمي، حيث ضمنتها ضمن معايير الاعتماد المؤسسي أو البرامجي. فلا تستكمل الجامعات سواء على المستوى المؤسسي على مستوى البرامج التعليمية متطلبات الاعتماد الأكاديمي، إلا بعد تقديم أدلة كافية على تضمين هذه السياسات والتوجهات ضمن سياساتها المؤسسية.
وقد جاء ترمب في فترته الثانية مدعوماً بكثافة من توجهات محافظة ثقافياً واجتماعياً، معارضة تماماً لهذه التوجهات الليبرالية المتطرفة، وقد سبق لها أن عانت من تسلطها في الجامعات والمؤسسات الأكاديمية والبحثية، فكان التأكيد على تعطيل العمل بهذه السياسات وربط الدعم الفيدرالي للجامعات بإقفال المكاتب والإدارات الراعية لهذه التوجهات، وكانت في صدارة قرارات ترمب التنفيذية في أيامه الأولى في البيت الأبيض. هذه القرارات التي تحفظت عليها أكثر الجامعات ورفضتها، وعدّتها تدخلاً من الإدارة الأميركية في شؤونها الأكاديمية، وخرقاً لقواعد الحرية الأكاديمية، كما عدّت ربط ذلك بالدعم الفيدرالي تهديداً لريادة الجامعات والمؤسسات البحثية الأميركية عالمياً.
فما تفعله حكومة ترمب هو ابتداء نوع من أنواع الثأر السياسي لهذه المؤسسات، التي احتشدت بقضها وقضيضها ليس ضده شخصياً فقط في الانتخابات الأخيرة، ولكن ضد كل التوجهات المحافظة ثقافياً واجتماعياً، متهمة إياها بالشعبوية والجمود. كما تعبر قرارات ترمب التنفيذية عن رفض شريحة كبيرة من الناخبين الأميركيين الذين أوصلوه للبيت الأبيض لهذه السياسات الليبرالية، وللتطبيق المتطرف في فرضها وتعزيزها، ويأتي القرار التنفيذي الأخير بتوجيه وزيرة التعليم الأميركية بمنع مؤسسات الاعتماد الأكاديمي من تضمين معيار سياسات التنوع والإنصاف والشمول ضمن معايير الاعتماد الأكاديمي، بوصفه ضربة أخيرة لهذه السياسات في الجامعات الأميركية ولكل الداعمين لها والقائمين عليها.
وبالطبع كما استفادت الجمعيات الطلابية والمجموعات الإسلامية من هذه السياسات، خلال فترات ماضية ضمن مختلف أطياف الأقليات، فقد انخرطت بالتالي في تحالفات مباشرة وغير مباشرة لأجل حمايتها واستمرارها، ومن ثمّ فإنَّها ستعاني كما يعاني غيرها من عقوبات ترمب وتهديداته المستمرة بملاحقة كل الداعمين لهذه السياسات التي تعارضها الأغلبية العظمي من ناخبيه.
وبغضّ النظر عن الموقف من هذه القضايا، فإنَّه من المهم فهم خلفية هذه الحملات، التي تصور الموضوع في حرب ترمبية أخرى على الأكاديمية والبحث العلمي، وإدراك ما هو المستهدف حقيقة من تدخلات الحكومة الأميركية. الموضوع ليس متعلقاً بمحاربة الحرية الأكاديمية أو سياسات العدالة، الموضوع من وجهة النظر الأخرى هو تأكيد للحرية الأكاديمية وتعزيز لدورها، ورفع الاحتكار الليبرالي اليساري لها، الذي فرض كل ما عدّه مسلّمات من حقوق غير محددي الهوية الجندرية والمتحولين، وعدّها حقوقاً طبيعية، وعدّ مجرد المساءلة والاختلاف حول هذه القضايا من التابوهات الأكاديمية. ومع ما قد يبدو عليه الأمر من صعوبة الدفاع عن ترمب وتوجهاته في كثير من الأحيان، فإنَّه يبقى من الضروري فهمُ خلفيات الصراع وحدود هذه التدخلات المطلوبة وطبيعة التأثير والتأثر الناتج عنها، حتى لا ننتهي إلى تلك المراثي أو الشماتات في الحرية الأكاديمية وقصص نهاية الريادة الأميركية بحثياً.
* أكاديمي سعودي