عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    09-Jan-2020

حرب المسرحيات.. بين الرد الإيراني على مقتل سليماني ورد ترامب على كيماوي خان شيخون - د. محمد العمر

 

الجزيرة - تعيش المنطقة منذ فترة من الزمن على وقع طبول الحرب والتصعيد بين الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها من جهة وبين إيران وحلفائها من جهة أخرى. بلغ التصعيد ذروته بعد اقدام الولايات المتحدة الأمريكية وبناء على أمر رسمي وعلني من الرئيس دونالد ترامب بتصفية الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري واحد أقوى الشخصيات الأمنية والعسكرية في إيران. زلزل هذا الحدث أركان الجمهورية الإسلامية التي توعد قادتها برد "مزلزل وصاعق" على الخطوة الأمريكية. في المقابل توعدت الولايات المتحدة الأمريكية على لسن رئيسها بالرد "بسرعة وحزم" على أي رد إيراني على مقتل سليماني. هذه التصريحات والتصريحات المضادة أصبحت أشبه بحرب الأعصاب التي وضعت المنطقة فيما يبدو على شفير الهاوية.
 
بعد عدة أيام على العملية الأمريكية وتحديدا في فجر يوم الأربعاء الموافق للثامن من شهر كانون الثاني يناير، ردت إيران على مقتل جنرالها القوي بإطلاق عدة صواريخ باليستية باتجاه عدد من القواعد الأمريكية في العراق. وبينما أعلنت وسائل إعلام إيران بأن عددا كبيرا من الجنود الأمريكيين قد قتلوا، نفت وزارة الدفاع الأمريكية ذلك، بينما علق ترامب بأن كل "شيء على ما يرام". السؤال الذي يطرح نفسه هنا: وماذا بعد؟ هل سيزداد التصعيد في المنطقة أم أن الرد الإيراني سيرسم نهاية هذه الصفحة ولو مؤقتا؟ الإجابة على هذا السؤال تحتاج منا أن نضع الأمور في سياقها المحدد والواضح من حيث بيان طبيعة العلاقة الأمريكية الإيرانية.
 
حقيقة التسهيل الأمريكي لإيصال نظام الخميني للسلطة ونقله عبر طائرة فرنسية ليحط في مطار طهران على الرغم من العداء المعلن للولايات المتحدة هي مسالة لا يجوز تجاوزها أو القفز عليها في أي تحليل موضوعي للعلاقات بين البلدين
في الحقيقة، وعلى الرغم من المواقف العدائية الشرسة المعلنة بين طهران وواشنطن، إلا أن الحسابات الاستراتيجية لكل طرف تجعله بعيد تماما عن التفكير في فتح جبهة حرب شاملة مع الطرف الآخر. هذا المبدأ تكرر على لسان كل مسؤولي البلدين ولا سيما الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والمرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي. لكن ما هي أسباب ذلك.
 
بالنسبة لإيران، أسباب عدم الرغبة في الدخول في حرب ساخنة مع الولايات المتحدة تبدو واضحة. فالجمهورية الإسلامية من جهتها لا تحبذ وليس من مصلحتها البتة الدخول في نزاع مسلح مفتوح مع الولايات المتحدة الأمريكية في ظل الخلل الكبير في ميزان القوى العسكرية لصالح الأخيرة. هذا الموضوع معروف للجميع ولا حاجة للتفصيل فيه في هذا المقال. لذلك فإن إيران المدركة جيدا للتفوق الأمريكي تعي جيدا بأن أي نزاع من هذا النوع سيكون كارثيا عليها على كافة المستويات، خاصة في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية التي تعيشها البلاد تحت ضغط العقوبات الأمريكية القاسية. من جهة أخرى، فإن إيران، حالها كحال جميع الأنظمة الشمولية، ليست متحمسة للدخول في أي معركة دفاعية طالما أن نظام الحكم نفسه ليس مستهدفا. وفي هذه النقطة فقد كررت الولايات المتحدة رسالتها كثيرا وعلى لسان ترامب نفسه بأن بلاده لا تستهدف تغيير نظام الحكم في إيران. 
 
أما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فعدم الرغبة في الدخول في حرب مفتوحة مع إيران يستحق الوقوف عنده لتحليله. إيران ليست خصما سهلا في المنطقة، بل هي قوة إقليمية يحسب لها الحساب. فموقعها الجيوسياسي الحيوي المشرف على واحد من أهم الممرات المائية الحيوية في العالم، ونفوذها الممتد على مساحات واسعة من غرب آسيا والشرق الأوسط ابتداء بأفغانستان ومرورا بالعراق وسوريا ولبنان ووصولا إلى اليمن، كل ذلك يجعل منها خصما عنيدا في أي حرب ضدها. لكن المتأمل جيدا لتطور العلاقات الغربية الإيرانية عموما والأمريكية الإيرانية خصوصا يستطيع أن يلحظ أشياء ملفتة للنظر ولا تتناسب البتة مع ما يظهر للعلن من مظاهر العداء الشرس بين المعسكرين.
 
فلو عدنا مثلا إلى بدايات وصول الإسلاميين للسلطة في إيران عام 1979، فقد أثبتت العديد من الوثائق الأمريكية التي تم الكشف عنها منتصف العام 2016 بأن "الخميني" كان قد أرسل عدة رسائل من منفاه في باريس إلى إدارة الرئيس الأمريكي جيمي كارتر. فحوى هذه الرسائل تشير إلى التزام الخميني بإقامة علاقات ودية مع الأمريكيين، وتعهده بعدم قطع النفط عن الغرب مقابل تدخل الولايات المتحدة لدى قادة الجيش الإيراني الموالين للشاه لتحييدهم من أجل تسهيل وصول الخميني للسلطة، وهذا ما حصل بالفعل.
 
فالإدارة الأمريكية أشرفت بشكل مباشر عن طريق الجنرال الأمريكي "روبرت هويسر" نائب القائد العام لحلف شمال الأطلسي على تحييد كبار قادة الجيش الإيراني الموالين للشاه ومن ثم الإشراف على إخراج الشاه وعائلته من إيران إلى منفاه منتصف كانون الثاني عام 1979، ومن ثم إعطاء الضوء الأخضر للخميني للاتجاه إلى طهران، حيث أقلته طائرة فرنسية ليتسلم زمام السلطة في إيران.
 
إن حقيقة التسهيل الأمريكي لإيصال نظام الخميني للسلطة ونقله عبر طائرة فرنسية ليحط في مطار طهران على الرغم من العداء المعلن للولايات المتحدة هي مسالة لا يجوز تجاوزها أو القفز عليها في أي تحليل موضوعي للعلاقات بين البلدين. السؤال المهم الذي يجب أن يطرح هنا والذي ستحدد إجابته الصحيحة طبيعة واصل العلاقات الأمريكية الإيرانية هو التالي: لماذا أوصلت الولايات المتحدة الخميني للسلطة عام 1979؟
 
نرى أن إيصال الإسلاميين "الشيعة" إلى سدة الحكم في إيران إنما كان يهدف لتنفيذ خطة طويلة الأمد هدفها تفتيت المنطقة خدمة لأجندات وأحلام إسرائيل وذلك من خلال وضع عود الثقاب الإيراني "الشيعي" إلى جانب المحصول "السني" المتهالك والمتفتت والمشرذم. فنظام الخميني يمتلك في تركيبته نفسها آمال وطموحات توسعية في المنطقة، مما سيحوله بالفعل، وبقوة دفع ذاتية، إلى عود ثقاب يحرق المنطقة الجاهزة أصلا للاشتعال. وكما يعلم الجميع، على الرغم من أن الخلاف حول اتفاقية الجزائر حول الحدود بين البلدين كانت السبب الرسمي لاندلاع الحرب الإيرانية العراقية بعد عدة أشهر فقط من وصول الخميني للسلطة، إلا أنه بات من المعلوم اليوم بأن الطموحات التوسعية للخميني في السيطرة على المراقد الدينية المقدسة في كربلاء والنجف العراقيتين كانت أحد العناصر المحركة الرئيسية وراء قرار الحرب من جهة إيران. ولا يخفى على أحد اليوم كيف اتبعت الولايات المتحدة آنذاك سياسة منافقة تقوم على دعم العراق علنا ودعم إيران سرا بالأسلحة، وهذا ما تم توثيقه في فضيحة إيران كونترا.
 
لاحقا وبعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، والذي تعاونت فيه طهران بشكل واضح مع الأمريكان، تم تسليم العراق لطهران على طبق من ذهب وذلك بالاعتماد على سياسة غض الطرف المقصودة والممنهجة عن تمدد النفوذ الإيراني في هذا البلد المحوري والغني.  كتاب "المبعوث" للسفير الأمريكي السابق في إيران زلماي خليل زاد أشار إلى هذه السياسة في العراق بوضوح، وهذا ما أشرنا إليه في مقالة سابقة بعنوان "أوركسترا الشيطان: عن دور وأهداف إيران 2".
 
اليوم، ولاحقا لموجات الربيع العربي، يبدو أن سياسة غض الطرف الأمريكي عن التمدد الإيراني ما زالت مستمرة. فدخول إيران إلى سوريا وتغلغلها في اليمن إضافة إلى لبنان لا يمكن في الحقيقة أن يتم لو أرادت الولايات المتحدة منعه فعليا. استنادا لكل ذلك، نعتقد بأن الولايات المتحدة تستخدم إيران لتحقيق أهداف إسرائيل في تحويل بوصلة الصراع عنها واستبدال إيران بها أولا، وتخويف الأنظمة الوظيفية العربية بالخطر الإيراني ودفعها للارتماء في أحضان تل أبيب ثانيا. أما الهدف الثالث على المدى المتوسط والبعيد فيتمثل في إشعال المنطقة، والخليج على وجه الخصوص، وتفتيتها في نهاية المطاف بما في ذلك إيران نفسها. الجمهورية الإسلامية لا تفعل كل ذلك خدمة للولايات المتحدة أو إسرائيل، ولكن فقدان الإيرانيين للبصيرة الاستراتيجية لا يدعهم يدركون الأهداف الخفية لغض الطرف الإسرائيلي والأمريكي عن تمددهم في طول البلاد وعرضها. عدم الإدراك هذا ربما خلق نوعا من القوة الوهمية والغطرسة لدى بعض قادة إيران فجعلهم يتحدون الولايات المتحدة أو يستسهلون الصراع معها.
 
في المحصلة، نعتقد بأن حربا مفتوحة بين الولايات المتحدة وإيران لا يمكن أن تحدث للأسباب التي ذكرناها أعلاه. إن الرد الإيراني المسرحي والهزلي على قاعدة أمريكية شبه خاوية لهو دليل على تفاهم غير مباشر بين الطرفين لتجنب الصراع. يذكرنا الرد الإيراني هذا برد ترامب عندما أرعد وأزبد بشأن استخدام النظام السوري للأسلحة الكيماوية في خان شيخون عام 2017. بالفعل رد ترامب، ولكن بنفس طريقة الرد الإيراني اليوم تماما. إذ قامت بوارج أمريكية في المتوسط بقصف قاعدة الشعيرات التي انطلقت منها الطائرة التي قصفت خان شيخون، إلا أن هذه الضربة لم تخلف في الحقيقة أي أثر مهم على الأرض يتناسب مع حجم الضجيج الذي أحدثه ترامب.
 
الكثيرون اعتبروا الضربة وقتها بأنها مثلت عملية منسقة بطريقة غير مباشرة لحفظ ماء الوجه. اعتقادنا بعدم إمكانية نشوب حرب مفتوحة إيرانية أمريكية يمثل القاعدة العامة التي ستسير عليها الأمور ما لم يحدث هناك انحراف كبير للغاية وغير مدروس من هذا الطرف أو ذاك، وهذا مستبعد حتى الآن. الحرب إن لا قدر الله اندلعت في المنطقة، فلن تندلع بين إيران والولايات المتحدة كطرفين أصيلين في المعركة، بل بين إيران ودول الخليج، وخاصة المملكة العربية السعودية، وسيكون ذلك لاحقا لمكائد خبيثة تستهدف إشعال هذه الحرب بين هذه الأطراف. الولايات المتحدة ستلعب عندها دور الداعم "المنافق" لدول الخليج، أسوة بما فعلته مع صدام حسين. هذه القناعة ناقشناها سابقا في مقالتنا بعنوان "الحشود الامريكية والتحدي الإيرانية: مسرحية مكررة أم مقدمة لحرب حقيقية شاملة".. وها نحن نكررها اليوم..