الدستور
في الثقافتين، الأمريكية والأوروبية، لم يحدث أن تكشّف زيف مفهوم «اللاسامية»، كما يحدث اليوم..
ردّاً على مجموعة الهزائم الثقافية والفكرية للأمّة، وفي الحوارات التي تهطل على الناس كالمطر، يجري إشهار مفهوم «نظرية المؤامرة التاريخية» باستهتار أمام وفي وجه أيّ حوار يحاول أن يكون نقدياً أو جاداً. هذا الاشهار والاتهام، الذي هو رماية بالذخيرة الحية، له ما يبرره في تاريخ ثقافتنا التبريرية والاتّكالية. غير أنّه غير بريء، في الوقت نفسه، مما يحاول اتهام الآخر به.
في الماضي، وفيما نعيشه اليوم، وفيما سيعيشه غيرنا من قادم الأيّام، ثمّة خطط ومؤامرات ومنظّمات سريّة ودينيّة وعائليّة، وثمّة شبكات مال ونفوذ وسلطة ومخابرات، تحاول السيطرة على أوسع ما يمكن السيطرة عليه، من مصالح ومقدرات، في هذا العالم. وهي مجموعة كبيرة من الشبكات المعقّدة، سريّة وعلنيّة، تخوض حروبها السريّة والمعلنة، وتحقّق انتصارات وهزائم، وتتنافر تلك المصالح وتلتقي ثانية.
وفي طريق النجاحات والفشل، تنشأ ثقافات ومفاهيم جديدة، تتخفّى بالأديان حيناً، وبجذور سلالات تاريخية وأعراق أحياناً أخرى. غير أنّ التحليل بالاستناد إليها كفكرة، هو ما يوقع في فخّ «نظرية المؤامرة» بشكله الساذج، الذي يجري الآن تعميمه وتحريمه وتسخيفه في آن معا. أما القبض على تلك المعرفة، فلا يستقيم إلّا بأبحاث ودراسات علميّة، ما يحتاج إلى سياقات أخرى لإدراك ما يحدث على مستوى العالم، بشكل كليّ أو بشكل إقليميّ.
واحدٌ من تلك المفاهيم، التي يجري تصليبها الآن، وزرع جذورها في الثقافة الإنسانية، هو مفهوم «اللاسامية». وهو مفهوم أوروبيُّ المنشأ والجذور، يمتد إلى قرن ونصف القرن في تاريخ روسيا القيصرية وأوروبا.
من المفارقات، في هذا السياق، أنّ القاموس الأمريكيّ للغة الإنجليزية يعرّف «العبريّ»؛ على أنّه (عضوٌ من الساميين. والساميون هم سلالة تتحدّر من «إبراهيم العهد القديم»). ومن المدهش، أنّ هذه السلالة، بتعريفها الأمريكيّ، تتضمّن العرب أيضا «!!». أمّا اليهوديّ، فهو معتنق الديانة اليهودية المعروفة. ويعرّف هذا القاموسُ الأمريكيّ الصهيونيَّ؛ على أنّه عضو حركة سياسيّة معنيّة بالمحافظة على أهداف دولة إسرائيل ودعمها «!»
في الحقيقة، فإنّ هذه الأقانيم الثلاثة تشكّل موضوعات مختلفة هي؛ عرقٌ، ودينٌ، وسياسة. إنّ أيّ نقاش أو حوار، حول معاداة «السامية»، عادة ما يتبدّد ويضيع، في محاولات الخلط والتمييز بين العبرانيين واليهود والصهاينة. كما أنّ الجمع بين هذه الموضوعات الثلاثة، التي هي في الأصل منفصلة ومنفردة، في مسألة واحدة، أوقع خلطاً متعمّداً في المفاهيم، تمّ توظيفه وتسويقه عبر ثقافات متعدّدة، تنتمي إلى تواريخ سياسية مختلفة، حول مفهوم واحد، بقصد أن يكون له دلالة واحدة هو «اللاسامية».
في الثقافة المعاصرة، للناس العاديين في الولايات المتحدة، يعتبر من الخطأ الحكم على أيّ شخص بسبب جنسه أو عرقه، وهي صفات ليس للإنسان إرادة في السيطرة عليها، كما أنّه في تلك الثقافة يعتبر الأميركيون العاديون من الأخلاق السيّئة مهاجمة عقيدة أو دين أيّ شخص آخر. فقط في السياسة تعتبر الثقافة الأميركية الخلاف والجدل مشروعاً ومباحاً. وفي بقعة السياسة تلك، تمّ بذر وزرع كثير من الخلط والارتباك بشكل مقصود، حيث إنّ مؤيدي الصهيونية، ولأعوام طويلة، هاجموا بمهارة وذكاء خصومهم باعتبارهم معادين للسامية، إلى أن وصل كثير من الأميركيين إلى الكُره والاشمئزاز حتى من مجرّد المساءلة لسياسات دولة إسرائيل، مهما كانت بشعة وكريهة «!»
وفي تلك المنطقة السياسية الواسعة لمعاداة السامية، في ثقافة الأميركيين والأوروبيين، تمّ استخدام هذا الخلط باسم اللاسامية وتوظيفه، لتلويث سمعة أيّ شخص أو جهة يمكن أن تقدّم نظرية تآمرية لتاريخ اليهود، أو الاعتراض على سياسات إسرائيل. وعلى الرغم من أنّ كثيراً من النخب الثرية في العالم، تتحدّر من أصول يهودية، أو لها تراث يهودي، وعلى الرغم أيضا أنّ الشغف للمال والنفوذ هو الذي جمع ملوك المال والتمويل والسياسة، في نسيج محكم، في شكل منظّمات متشابكة واسعة النفوذ والتأثير، فقد جرى الدمج ثقافيا وفي منطقة واحدة، بين العرق والدين والسياسة، لإنتاج مفهوم اللاسامية، الذي تمّ قبل عقود، اقتياد الجمعية العامة للأمم المتحدة لتخصيص يوم السابع والعشرين من الشهر الأوّل في كلّ عام لإحيائه وإحياء ذكرى محرقة «الهولوكوست» اليهودية، على الرغم من أنّ ضحايا الحرب العالمية الثانية تجاوزوا عشرات الملايين من مختلف الشعوب.
كارثة الإبادة الهمجية للناس في غزة هي مَن ألقَت مفهوم اللاسامية في عراء الثقافة الإنسانية؛ وذلك على الرغم من كل محاولات ترميمها، وعلى الرغم من إنشاء إدارة الرئيس ترامب لمؤسسة مكارثية جديدة، مهمتها مكافحة كلّ أشكال التعاطف مع الحق العربي في فلسطين، وإعادة سطوة إرهاب اللاسامية على رقاب الناس وثقافاتهم وقيمهم وأخلاقهم الإنسانية..!