عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    25-Aug-2020

إضاءة على رواية “من حوران إلى حيفا”

 

الدكتور سمير قطامي*
 
عمان –الغد-  صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، رواية “من حوران إلى حيفا”، لجراح العظام الشهير الدكتور زياد الزعبي.. وهي رواية سيرية تاريخية تتناول حقبة مهمة من تاريخ شرقي الأردن وفلسطين، في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين؛ إذ كانت الدولة الأردنية الوليدة في طور التشكّل، وفلسطين الخاضعة للانتداب البريطاني في حالة صراع بين سكانها العرب الأصليين العزل، وقوافل اليهود القادمين من وراء البحار، المدجّجين بالمال والسلاح، المدعومين علنا وسرا من قبل الانتداب البريطاني الذي أطلق العنان للعصابات اليهودية في منتصف العام 1948، للاستيلاء على المدن والقرى الفلسطينية، وطرد معظم سكانها أو قتلهم.
إنها رواية سردية تاريخية سياسية اجتماعية، تتناول أحوال الناس المعيشية والاجتماعية والثقافية، وهمومهم السياسية والاقتصادية، في كل من شرقي الأردن وفلسطين، وتسجّل معاناة الناس وآلامهم وآمالهم وعاداتهم وتقاليدهم في الأفراح والأتراح، تلك التي غدت اليوم غريبة على شباب اليوم.. كما تصوّر أشكال الحياة وطبيعة علاقات الناس الاجتماعية، وانعكاس الأحداث السياسية المضطربة، والأوضاع الاقتصادية السيئة، على الشعبين شرق النهر وغربه.
تسجّل الرواية رحلة صبي، هو والد الدكتور زياد، من إحدى قرى إربد في شمال الأردن، إلى مدينة حيفا بفلسطين، تلك المدينة التي كانت مهوى أفئدة الكثير من شباب سورية والأردن.. فهي الميناء المهم الدي يعجّ بالحركة والنشاط، وفيها الكثير من فرص العمل لشباب الأردن وسورية والقرى الفلسطينية.. وهي المدينة الحيوية الصاخبة العامرة بكل غريب ومثير، المدينة التي يصبو إليها كل من يبحث عن عمل، أو خلاص من الفقر والجوع، ومن ذلك كله كان حلم الصبي الذي ينعته المؤلف بالحوراني، التوجّه إلى حيفا، لكثرة ما كان يسمع من قصص وحكايا وأسرار يرويها الكبار عنها، ذلك الحلم الذي حققه بمغامرة خطيرة؛ إذ ارتحل سيرا على قدميه، متوجّها نحو الغرب للخلاص من حياة الفلاحين القاسية الخالية من أي طموح، غير آبه بما يمكن أن يواجهه من مخاطر وأهوال وتهديد وجودي، وهو الصبي الصغير ذو القلب الجريء، إلى أن وصل بلدة سمخ، حيث نزل عند أقارب له، سبق لهم أن زاروا أباه معزّين، ليتوجّه في اليوم التالي بالقطار إلى حيفا.
إنها رحلة العذاب والشقاء والجوع، تلك التي عاناها كثير من سكان شرقي الأردن كعيسى الناعوري وسليمان الموسى، في سبيل البحث عن حياة أقل شقاء وبؤسا، ليواجهوا في بلاد الغربة ظروفا لا تقلّ شقاء عما عانوه في بلادهم، ويضطروا لمغادرة فلسطين إبّان احتدام المعارك بين العصابات اليهودية والسكان العرب، لطرد المواطنين من بيوتهم، وتهجيرهم إلى الأردن ولبنان وسورية ومصر.
وتلك سردية أخرى سجلها زياد الزعبي كما سجلها عيسى الناعوري وروكس بن زائد العزيزي، موثّقا بها أحداثا سياسية، وبطولات عربية، وجراحات نفسية واقتصادية.. فزياد يؤرّخ للأحداث والوقائع والشخصيات، مما سمعه من أبيه وأمه وأقاربه الكبار، ومما قرأه من كتب سياسية وتاريخية وجغرافية واجتماعية وثقافية… عن فلسطين وسكانها ومدنها وقراها، وما مرّ عليهم من أحداث، وما عانوه من مؤامرات وخيانات من بعض زعمائها.
ومع أن زيادا لم يزر فلسطين بعد النكسة، لأسباب سياسية ونفسية، فقد كنا نحسّ ونحن نقرأ الرواية وصفا للأحياء والشوارع والحارات والبيوت والشخصيات، كأن الكاتب مقيم هناك، معاين للأحداث، معايش للشخوص، يصف الأحداث كما يراها، ويقدم الشخوص وكأنه يعرفهم معرفة وثيقة.
لقد قدّم زياد في هذه الرواية بطلا عنيدا لإيهاب الأخطار، ومجتمعين لوطن واحد لا يفصل بينهما إلا نهر صغير.. وإذا كانت الرواية عملا تخييليا مرتبطا بالواقع، ذا رسالة، فقد جاءت رواية (من حوران إلى حيفا) عملا تاريخيا سياسيا خياليا، مضمّخا بروح قومية منزهة عن العنعنات الإقليمية والجهوية والطائفية والدينية، ولا غرو في ذلك، فهذا ديدن زياد، وتلك بوصلته.
رواية (من حوران إلى حيفا) سردية تاريخية سياسية اجتماعية ممتعة، حافلة بالأحداث المهمة، والوقائع التاريخية، والشخصيات الحقيقية التي كان لها دور في تلك الحقبة، وهي رواية ممتعة تستحق القراءة والاقتناء؛ إذ إنها نتاج يد جراح يداوي المرضى، ويصحح اعوجاج العظام، وهو في هذه الرواية يفتح أعيننا على أدواء مجتمعنا الأردني والفلسطيني، ويكشف ما عانته الشعوب من فساد الزعماء والحكام، وخيانة الخائنين لأوطانهم وأمتهم، على أمل ألا تتكرر أخطاء الماضي ومآسيه.