القدس العربي - يعز علي وعلى غيري ممن زاملوا أو تعرفوا على الكاتب الصحافي الكبير الفقيد حسنين كروم مدير مكتب «القدس العربي» بالقاهرة، يعز علينا أن ننعي نموذجا إنسانيا فريدا؛ كان أستاذا ومحبا وبسيطا ومتواضعا؛ ورث عن عائلته وأسرته صفة حملت معنى كبيرا؛ صفة «ابن البلد»، بما تعني من شهامة واستقامة. ونعاه نقيب الصحافيين المصريين ضياء رشوان كـ«صاحب محطات مهمة في الصحافة المصرية والعربية، وأعطى الكثير لهما بما جعل منه رمزا كبيرا من رموزهما»، في آخر لقاء معه العام الماضي في وسط القاهرة؛ جاء بصحبة أحد أحفاده، وكانت رئيسة التحرير الاستاذة سناء العالول قد طلبت مني الاطمئنان عليه، ونقل تقديرها واعتزازها وأسرة الصحيفة به، ولما نقلت إليه ذلك انفرجت أساريره، ومع ذلك شعرت يومها بانقباض، فلم يكن بلياقته المعنوية المعهودة ولا حيويته المعروفة، وسألت نفسي هل هو اللقاء الأخير؟، وقد كان!!
والفقيد وُلد في أحد أحياء القاهرة العريقة، وما زال وفيا له ولنشأته فيه، ولذلك الحي سجل وطني حافل، ومثل الفقيد بسلوكه تجسيدا لعلاقة الالتزام الوطني بالانتماء العربي، وهو الذي حمل راية العروبة بين جحافل التكفير والتغريب والطائفية والمذهبية والانعزالية، ومثل عبد الناصر بالنسبة له طوق انتماء؛ بحث عنه وعثر عليه في نداء العروبة، الذي جلجل في سماء مصر والعرب إبان خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
وتعني صفة «ابن البلد» التي التصقت بحسنين كروم؛ أنه لم يتغرب، (من الغرب وليس من الغربة)، وتعني التعبير عن روح الشعب ووجدان الأمة، وذلك سر فخره وإشادته بمسقط رأسه وعائلته؛ في حي أبلى بلاء حسنا أيام المماليك، وإبان مقاومة الحملة الفرنسية، واعتز بالمساحة التي شغلتها في التراث الشعبي والوجدان الوطني المصري، ويذكر سامح الزهار خبير الآثار الإسلامية والعربية أن عالم «الفتوات» القديم أظهر شخصيات ذكية ووطنية من بينها شخصية إبراهيم كروم، (عم الفقيد) فتوة بولاق، الذي رفع لافتة استقبل بها عبد الناصر وحياه مكتوب عليها «فتوة بولاق يحيى فتوة مصر»!!.
وما زال تاريخ «الفتوات» في أحياء وحواري (جمع حارة) القاهرة منقوش على الجدران العريقة والعتيقة؛ ضارب الجذور، ليس في مصر وحدها إنما في التراث الشعبي العربي؛ ذلك في سِيَر وحكاوي علي الزئبق والظاهر بيبرس وألف ليلة وليلة، ويتميز و«أولاد البلد» بالحذق والبراعة وخفة الحركة، وقدرة التغلب على الخصم والمُناظِر؛ بالحيلة والدهاء والبراعة، وكانت لديهم جسارة أثناء تقديم «الملاعيب» دون ضرر أو أذى يلحق بأحد، وكان يكفيهم التقدير والاعتراف والإقرار ببراعتهم، واستقرت صورهم في الوجدان الشعبي بصون الحرمات، وإعانة الضعفاء، وإغاثة الملهوف.
و«الملاعيب»، وأشهرها «ملاعيب شيحة»؛ نُسبت لجمال الدين شيحه، الذي جاء إلى مصر، إبان عهد الظاهر بيبرس البندقداري (1223 ـ 1277م)، وأضحى من أتباعه، وكان يجيد التنكر والتخفي، وممارسة الحيل والنوادر والطرائف الغريبة، وفي طفولته اختطفه المغول، ولما كبر اشتراه أمير حماة البندقدار علاء الدين أيدكين، وآنضم لمماليك الصالح نجم الدين أيوب، وشارك في هزيمة الصليبيين في معركة المنصورة عام 1260م، وبعد أن انتصر جيش الظاهر بيبرس في عين جالوت على المغول. وكان قد أصبح سلطاناً على مصر والشام (عام 1260م)؛ تحول من مجرد حاكم إلى بطل؛ تُروى سيرته على ألسنة الرواة والشعراء، في مصر والشام.
وأثْرَت شخصية «شيحة» خيال الأدباء والشعراء؛ بقصص، قليلها حقيقي، وأكثرها من نسج الخيال، تبرز روح المغامرة والمرح والحيلة والدهاء، وزيادة التشويق والإثارة، وبمرور الوقت، اختفى «شيحه» الإنسان، وبقيت الملاعيب والحيل، وقويت شوكة «الفتوات» مع نظام الإدارة الجديد، الذي استحدثه محمد علي، وأشار عبد الوهاب بكر في كتابه «البوليس المصري» إلى ذلك التقسيم الإداري الجديد، الذي أعاد توزيع القاهرة إلى ثماني مناطق سكنية وإدارية وتجارية، وأُطلق على كل منطقة اسم «التُّمن»، وما زال كبار السن وسكان المناطق القديمة والأحياء الشعبية يطلقون على مراكز وأقسام الشرطة ذلك الاسم، وينقسم «التُّمن» لشياخات، والشياخة إلى حواري، ومناطق القاهرة الثماني كانت: الموسكي، الأزبكية، باب الشعرية، الجمالية، الدرب الأحمر، الخليفة، عابدين، السيدة زينب، مصر العتيقة (القديمة)، بولاق والسبتية (مسقط رأس الفقيد العزيز)، وفي حاراتها عاش «الفُتُوَّات»، وهذه نبذة عن روح المكان وظروف النشأة، وجاءت الصحبة بمثابة مجال حيوي إنساني آخر، وقيمته مضافة في ثراء شخصية الفقيد.
كان الكاتب الفقيد حسنين كروم نموذجا إنسانيا فريدا؛ كان أستاذا ومحبا وبسيطا ومتواضعا؛ ورث عن عائلته وأسرته صفة حملت معنى كبيرا؛ صفة «ابن البلد»، بما تعني من شهامة واستقامة
وساعد قرب الفقيد من الكاتب الكبير الراحل أحمد بهاء الدين على تذليل عقبات كثيرة في سنوات «القدس العربي» الأولى، وأثرت علاقته بالكاتب والمفكر الراحل محمد عودة في تقوية الأواصر بتلك الصحبة، ولُقِّب عودة بغاندي الثقافة العربية، وأثرت عليه الخسارة التي مني بها والده في تجارته، وهو تلميذ صغير، وتغلب على ذلك وعلى كثير من الصعاب التي عاشها، وصاغت منه مثقفا رفيعا؛ يُضرب به المثل! وقد اتجه نحو اليسار، ولما جاء عبد الناصر بفكره ورؤيته تحول إلى الناصرية، وأول كتبه كان عن الصين، ورفضته الرقابة، ولما اطلع عبد الناصر على المخطوط الأصلي؛ فوجئ عودة باتصال الرقابة؛ تبلغه الموافقة على نشر الكتاب، وبعد كتاب الصين أصدر كتابا عن الهند وثلاثة كتب عن مصر، وآخر كتبه كان عن الملك فاروق.
أما علاقته بالراحل الكريم عبد العظيم مناف؛ عميد دار «الموقف العربي»، التي صدرت عنها مجلة «الموقف العربي» الشهرية، وصحيفة «صوت العرب» الأسبوعية، وسلسة «الكتاب المسموع». وكانت مفتوحة للجميع، وكانت صداقة مثالية، ولما ضاقت عليه مصر بعد مصادرة «الموقف العربي» وتوقف «صوت العرب» ذهب إلى لندن وأعاد إصدار «صوت العرب» منها، وكان مناف سخيا وكريما ومهذبا مع الأصدقاء والخصوم؛ لا تسمع منه لفظا نابيا، وهكذا أحاطت بالفقيد كوكبة من نفس معدنه، وكأنها هبطت من عالم علوي؛ من الطيبين والقانعين والأقوياء.
وكانت صداقة الفقيد للراحل يوسف الشريف، تعكس صورة مثالية للارتباط المصري السوداني اليمني، وارتبطت عائلة الشريف بمصاهرة سودانية، والشريف خريج كلية حقوق القاهرة قضى ردحا من حياته في الخرطوم، وعاش أوضاع السودان عن قرب وتخصص فيها بعمق، ونجح في نسج علاقات قوية وقت عمله مراسلاً متجولاً لـ «روزاليوسف» في اليمن، وعايش الحرب الأهلية، وانفصال جنوب اليمن عن شماله، ولعب دوراً مهما إلى جانب مهنة الصحافة. وتسبب في إغلاق آخر محفل ماسونى بالإسكندرية؛ حين فتح ماسونيين محفلا سريا داخل بار سياحي، وأرسل القصة إلى رئيس تحرير روزاليوسف إحسان عبدالقدوس الذى جعلها موضوع غلاف المجلة، فتم القبض على أصحاب البار وعلى العاملين فيه.
وأختم هذه المجموعة المختارة بالناقد الكبير رجاء النقاش، والتقينا في عزاء شقيقة المرحوم يوسف الشريف من سنوات، الذي طلب من المقربين إليه الانتظار بعد انتهاء مراسم العزاء، واستجابوا جميعا، بما فيهم الراحل رجاء النقاش، الذي تحامل على نفسه بسبب المرض، ورحلة النقاش مع الصحافة بدأت من «روز اليوسف» عام 1959، ورأس تحرير مجلة «الهلال»؛ أقدم مجلة ثقافية عربية، وانتقل رئيسا لتحرير مجلة «الإذاعة والتليفزيون»، وأضفى عليها طابعا ثقافيا ونقديا عميقا، وفي قَطَر أشرف على مجلة «الدوحة» منذ تأسيسها عام 1981 حتى اغلاقها 1986، وعاد إلى مصر كاتبا بمجلة «المصور»، وانتقل رئيسا لتحرير مجلة «الكواكب»، وفي سنواته الاخيرة أستقر كاتبا متفرغا بـ«الأهرام»، وتميز بعلاقاته القوية بالأدباء والشعراء والنقاد العرب؛ مثل الطيب صالح ومحمود درويش، وحصل على جائزة الدولة التقديرية عام 2000، وكرمته نقابة الصحافيين المصرية، ولفت نظري اهتمامه الدقيق بـ«القدس العربي»، التي كانت محل تقدير الحاضرين من الكتاب والصحافيين والأدباء، وقد فاجأني بمتابعته اليومية لها، وأشار لمقالاتي الأسبوعية، ووجه حديثه للجميع «أطلبوا منه أن يكتب داخل مصر، فأنا لا أقول عنه كاتبا بل أقول الكاتب بألف ولام التعريف»!!.
ولو كانت المساحة تتسع لأكثر من ذلك لحفلت بكثير ممن التفوا وتحلقوا حول المغفور له «أبوطارق»، وعلاقته بما يمكن أن نطلق عليهم جيل الوسط، مثل نقيب الصحافيين الأسبق يحيى قلاش، وجمال فهمي، ومحمد حماد، وعبد الحليم قنديل، وعبد الله السناوي وغيرهم.
وأخيرا أتوجه إلى الله بالدعاء بأن يتغمد الفقيد العزيز بواسع رحمته، ويسكنه فسيح جناته، ويلهم أسرته وذويه الصبر السلوان، وخالص العزاء لزوجته الفاضلة، وابنه العزيز طارق وشقيقتيه الكريمتين والأحفاد المحترمين.
كاتب من مصر