عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    15-Apr-2025

الظل الطويل للمناظرة بين إدوارد سعيد ومايكل والزر‏ (2-1)

 الغد

‏ترجمة: علاء الدين أبو زينة‏‏‏
قلما شهد فضاء الفكر العالمي أواخر القرن العشرين سجالًا فكريًا ترك أثرًا عميقًا وممتدًا كالذي دار بين إدوارد سعيد ومايكل والزر. لم تكن المواجهة بينهما خلافًا عابرًا في الرؤى النظرية أو التقديرات السياسية، بل شكّلت في جوهرها تصادمًا بين رؤيتين أخلاقيتين متعارضتين للعالم: رؤية تستقي وعيها من التجربة المعاشة للاستعمار، وأخرى تتكئ على تقاليد الفلسفة السياسية الليبرالية الغربية.
كما أظهر إدوارد سعيد، المفكر الفلسطيني البارز ومؤسس نظرية ما بعد الاستعمار، في أعماله، لم تكن المعرفة الغربية يومًا بريئة، بل كانت متشابكة عضوياً مع إرث الإمبراطورية والاستعلاء الثقافي. وكشف سعيد في عمله الرائد "الاستشراق"، كيف استُخدمت المعرفة لتكريس الهيمنة، معيدًا تشكيل مفهوم المثقف في العالم الحديث بوصفه شاهدًا وناقدًا، لا خادمًا للسلطة. وعلى هذا الأساس، لم يرَ في المشاريع الليبرالية، حتى تلك المتدثرة بأخلاقية خطابها، سوى امتدادٍ لأنماط السيطرة ذاتها التي مارستها الإمبراطوريات في السابق.
في المقابل، برز مايكل والزر بوصفه أحد ألمع المدافعين عما يُعرف بـ"الصهيونية الليبرالية"، وهي محاولة للجمع بين التجربة التاريخية لليهود بوصفهم ضحايا للاضطهاد، وبين القيم الليبرالية من ديمقراطية وحقوق إنسان وتعددية. في كتبه المؤثرة، مثل "الحروب العادلة والظالمة" و"مجالات العدالة"، دافع والزر عن إمكانية التوفيق بين الانتماء القومي والالتزام الأخلاقي، مؤمنًا بأن الحروب قد تكون عادلة أحيانًا، وأن تحرر الشعوب -بما في ذلك إقامة دولة يهودية ديمقراطية في إسرائيل- يمكن أن يكون مشروعًا أخلاقيًا مشروعًا.
غير أن سعيد رأى في أطروحات والزر تواطؤًا مموَّهًا مع القوة. وفي رده الشهير على مقال والزر "عالم سعيد"، اتهم سعيد والتزر بالتغافل عن البنى العميقة التي يُعاد إنتاج الهيمنة من خلالها، معتبرًا أن الخطاب الليبرالي، حين يُوظف للدفاع عن مشروع استيطاني، لا يختلف في جوهره عن الخطاب الإمبريالي القديم -حتى وإن بدا أكثر نعومة وتسامحًا في ظاهره. وبذلك، فإن "الصهيونية الليبرالية"، من وجهة نظر سعيد، ليست مصالحة بين قيم متناقضة، بل تبريرًا أخلاقيًا لمشروع كولونيالي مستمر.
لم يكن هذا السجال مجرد خلاف في الفلسفة أو الرؤية، بل جسّد انقسامًا جوهريًا بين فكر ما بعد الاستعمار الذي يسعى إلى تفكيك أنماط السلطة المتوارثة، وبين الليبرالية الغربية التي تعجز -على الرغم من حسن نواياها أحيانًا- عن الخروج من فلك المركزية الأوروبية وتاريخها الإمبراطوري. وفي حين رأى والزر أن الأخلاق السياسية تستوجب التدخل أحيانًا لحماية الضعفاء، كان سعيد يرى أن هذا التدخل لا يكون بريئًا أبدًا، وأنه غالبًا ما يُوظف لخدمة ميزان قوى منحاز لصالح المهيمِن.
طرح السجال سؤالاً محوريًا لم يُحسم حتى الآن: هل يمكن حقًا التوفيق بين قيم الليبرالية، التي تنادي بالتعددية والمساواة والحرية، وبين مشروع قومي إثني قائم على الامتيازات الدينية والتاريخية، كما هو الحال في "الصهيونية الليبرالية"؟ وهل يمكن للمثقف أن يدّعي النزاهة الأخلاقية وهو يبرر نظامًا ينطوي على تمييز بنيوي وعنف كولونيالي متواصل؟
لم تكن القضية، إذن، مجرد اختلاف في المواقف، بل صراعًا بين رؤيتين للعالم: رؤية تُشكك في الخطابات الأخلاقية حين ترتبط بالقوة والسيطرة، وأخرى تسعى إلى تبرير مشروع سياسي قائم على ما تعتبره "استثناءً أخلاقيًا" مستمدًا من معاناة تاريخية سابقة. هذه المواجهة الفكرية، التي حدثت في نهاية القرن العشرين، لم تفقد راهنيتها؛ بل إن ظلها الطويل ما يزال يمتد إلى أسئلة اليوم: من يملك الحق في تعريف العدالة؟ من الذي يحق له الحديث باسم القيم الكونية؟ وهل يمكن للنظام الليبرالي أن يتجاوز تاريخه الاستعماري حقًا أم أنه يظل أسيرًا له، مهما تغيرت لغته وتحوّلت أدواته؟
في هذه الأوقات التي تشهد تجدد المواجهات حول فلسطين، وتُطرح فيها الأسئلة الصعبة حول حدود الخطاب الليبرالي الغربي في مواجهة الاحتلال والعنصرية، تعود هذه المناظرة لتُذكّرنا بأن الأفكار ليست مجرد أدوات تحليل، بل أسلحة سياسية ذات أثر طويل الأمد. وبينما يزداد المشهد العالمي تعقيدًا، وتصبح المواقف أكثر استقطابًا، تظل المواجهة بين سعيد ووالزر نقطة مرجعية مركزية في فهم التوتر القائم بين القيم المعلنة والحقائق المفروضة، بين الخطاب والسلطة، وبين النقد والتواطؤ.
إنها الظل الطويل لذلك السجال الفكري: مواجهة غير محسومة بين رؤيتين متنافرتين للأخلاق والسياسة، تُذكّرنا بأن معركة الأفكار لا تقل أهمية عن معركة المصالح، وأن الأسئلة التي طرحها سعيد ووالزر لم تُغلق بعد، وما تزال تحكم الكثير من معارك الحاضر.
 
- علاء الدين أبو زينة
 
 
 
 
نادر أندراوس* - (مجلة نيو لاينز) 2025/3/28
*   *   *
ثمة فجوة هائلة بين السمعة العامة للراحل إدوارد سعيد والكيفية التي رأى بها نفسه فعليًا. ومن السهل فهم السبب. يرتبط اسمه بالعديد من الخلافات الفكرية والسياسية المهمة في عصرنا، بما في ذلك فلسطين، والاستشراق، ونظرية ما بعد الاستعمار وسياسات الهوية. ويتم تذكُّر سعيد بعدد لا يحصى من التدخلات، والاهتمامات والتحالفات: كمتحدث باسم القضية الفلسطينية، ومنظِّر للنقد الأدبي "ما بعد الحداثي"، وعاشقٍ للثقافة الغربية البرجوازية الرفيعة والإنسانوية، وناشطٍ ثوري ووريثٍ لفرانز فانون.
كانت بعض هذه الأدوار في حالة توتر مع بعضها بعضا، وغالبًا ما تمت مقاربتها كشخصيات أو مجالات منفصلة من حياته وعمله. ولكن، إذا كان ثمة خط جامع يصل أبعاده المتعددة معًا، وإذا كان ثمة منهج متسق في عمل سعيد، فقد كان ما أسماه هو نفسه "النقد العلماني".‏
‏يمكننا أن نفهم بأفضل صورة ما قصده سعيد بـ"النقد العلماني" من خلال معاودة زيارة مواجهته الفكرية مع الفيلسوف السياسي مايكل والزر Michael Walzer. وكان الذي بدأ الاشتباك النقدي بينهما هو كتاب والزر "الخروج والثورة" Exodus and Revolution (1985). وثمة فائدتان لفحص هذا الجدل بالذات. الأولى هي أنه على الرغم من أنه يبدو متعلقًا بشيء مقصور على موضوع نخبوي -"العهد القديم"- فإنه سرعان ما يتضح أنه يتعلق بالعديد من الموضوعات الأخرى: ثورات العالم الثالث، وسوسيولوجيا المثقفين، ومصير اليسار، والمناهج التأويلية في ما بين هذه الموضوعات.‏
لكن الخلاف بين المثقفَين المؤثرَين تحدَّث أيضًا عن قضية ما تزال حية بإلحاح حتى اليوم. كان والزر من بين أبرز ممثلي "الصهيونية الليبرالية"، التي تواجه في الوقت الراهن أخطر أزمة وجودية في تاريخها. وتتيح مراجعة نقاش سعيد - والزر فرصة للنظر في مصير "الصهيونية الليبرالية" اليوم من خلال إعادة تقييم حججها وتجسيداتها السابقة. وبالنظر إليه الآن، يبدو موقف والزر أقل "ليبرالية" بكثير (ناهيك عن "علمانية" أو "عالمية" أو "إنسانية") مما تستدعي سمعته، في حين يبدو سعيد أكثر نزاهة وإخلاصًا لالتزاماته العلمانية والأممية.‏
‏في 21 أيلول (سبتمبر) 2024، كتب والزر مقالًا افتتاحيًا في صحيفة "نيويورك تايمز" بعنوان "قنابل أجهزة النداء الإسرائيلية لا مكان لها في حرب عادلة" Israel’s Pager Bombs Have No Place in a Just War، منتقدا تكتيك "تفجيرات البيجر" الإسرائيلية ضد "حزب الله" في لبنان، التي أدت إلى سقوط العديد من الضحايا المدنيين. وفي منتصف المقال، يوضح والزر: "مع ذلك، دعونا نضع تمييزًا هنا. إن إدانة عمل حربي ليس نفس إدانة الحرب نفسها"، التي هي عادلة في رأيه، لأن أعداء إسرائيل مدفوعون بـ"هدف غير أخلاقي وغير عادل"، مما يجعل رد إسرائيل -في غزة ولبنان- "مبررا". وبذلك يهتم والزر فقط بسلوك الحرب، ويصر على أنه، باستثناء هجوم أجهزة الاستدعاء، كان رد إسرائيل "محدودًا" و"مسيطرًا عليه".‏
تتعارض حجة والزر هنا مع المبادئ التي كان قد حددها هو نفسه في كتاب العام 1977 الأساسي "الحروب العادلة والظالمة" Just and Unjust Wars، وكان أحد هذه المبادئ هو التناسب - من غير الواضح على الإطلاق كيف أن رد إسرائيل متناسب مع الخطر الذي واجهته. لكن هذا التمرين في الفحص الفلسفي يُفصح عن معضلة، وربما حتى أزمة، داخل "الصهيونية الليبرالية". كيف يمكن الحفاظ على الالتزامات الليبرالية في سياق تصبح فيه الطبيعة العرقية والدينية للدولة الإسرائيلية أكثر وضوحًا باطراد؟ من المدهش كيف ينسب والزر فضائل إنسانية إلى الدولة الإسرائيلية، كما لو أن قادتها يتشاركون مبادئه الأخلاقية. ما الذي يمكن أن يفسر عدم التناسق بين دفاع "الصهيونية الليبرالية" عن عالمية الأخلاق وارتباطها العميق بدولة عرقية معينة تنتهك باستمرار تلك المبادئ بالذات؟‏
بحلول الوقت الذي صدر فيه كتابه "الخروج والثورة" Exodus and Revolution في العام 1985، كان والزر قد أسس نفسه مسبقًا كأهم مؤيد فكري لـ"الصهيونية الليبرالية" في كل من الأوساط الأكاديمية والمجال العام الأميركيين. وكان والزر، المولود في العام 1935، مثالاً نموذجيًا لجيل المثقفين التقدميين الذين شكلتهم الحركة ضد حرب فيتنام -ولكنهم لعبوا لاحقا دورًا في شرعنة السياسات الخارجية الأميركية مثل التدخل العسكري في أفغانستان. ويمكن وصف نظرة هذا الجيل بأنها ديمقراطية اجتماعية بشكل عام، والتي تفضّل ما اعتبروه تدخلات عسكرية خيِّرة في الخارج ومعادية لإرث الحركات المناهضة للاستعمار وحركات العالم الثالث. ثمة استمرارية معينة بين جيل والزر والجيل الأكبر سنًا من "ليبراليي الحرب الباردة". ولكن هناك أيضًا انقطاع، يعود إلى حقيقتين: أولاً، تماهى جيل والزر مع "اليسار الجديد" في الستينيات (خاصة فيما يتعلق بالحقوق المدنية، والنسوية، والحركة ضد حرب فيتنام)، وثانيًا، اتخذت إسرائيل والصهيونية مكانة أبرز بكثير في اهتماماتهم مقارنةً بالليبراليين الأبكر.
عزز كتاب "الحروب العادلة والظالمة" سمعة والزر كسلطة في نظرية الحرب العادلة الحديثة، لكنه كان قد أحدث ضجة مسبقًا كمفكر سياسي من خلال كتاباته عن حرب فيتنام، ولاحقًا دفاعه القوي عن إسرائيل في أعقاب "حرب الأيام الستة" في العام 1967. كان والزر مُحررًا وكاتبًا منذ فترة طويلة في مجلة "المعارضة" Dissent، وهي مجلة تأسست في العام 1954 لتكون منصة لليسار الديمقراطي الذي كان ينتقد كلًا من الرأسمالية الغربية والشمولية السوفياتية. وعلى الرغم من أنه كان منتقدًا لحرب فيتنام، أوضح والزر في "الحروب العادلة والظالمة" أنه لم يكن داعية سلام ولا مناهضًا للحرب بشكل قاطع لا لبس فيه. وقد جمع الكتاب بين نسخة محدّثة من نظرية الحرب العادلة الكاثوليكية، وأمثلة تاريخية متنوعة تمتد من الحروب البيلوبونيسية وصولًا إلى حرب فيتنام وحرب الأيام الستة. وكما يعترف والزر نفسه، كان الكتاب محاولته لكي يوضح لنفسه السبب في أنه كان معارضًا لحرب فيتنام، ولكنه مؤيد للهجوم الإسرائيلي في العام 1967. وعلى الرغم من أن حرب الأيام الستة شغلت مجرد خمس صفحات فقط من الكتاب (تحت عنوان "الضربات الوقائية")، إلا أنها أرشدت المشروع ككل وحفزت السؤال الذي شرع والزر في الإجابة عنه. وسوف يمضي كتاب "الحروب العادلة والظالمة" ليصبح نصًا قانونيًا في الأخلاق العسكرية والقانون الدولي والنظرية السياسية.‏
مقارنًا بأعمال والزر الرئيسية الأخرى في الفلسفة السياسية، كان كتاب "الخروج والثورة" غير ملحوظ إلى حد ما. إنه يندرج ضمن فئة منفصلة، وأقل شهرة، من أعمال فالزر الفكرية التي بدأت بأطروحته لنيل درجة الدكتوراه -التي نشرت في العام 1965 بعنوان "ثورة القديسين: دراسة في أصول السياسة الراديكالية" The Revolution of the Saints: A Study in the Origins of Radical Politics- واستمرت حتى المجلدات الأربعة التي شارك في تحريرها تحت عنوان "التقليد السياسي اليهودي" The Jewish Political Tradition. وتتناول هذه النصوص دور التقاليد الدينية في تشكيل التاريخ. كان "ثورة القديسين"‏‏‏‏ دراسة اجتماعية وتاريخية لدور الطوائف الكالفينية والبيوريتانية في خلق العالم الأخلاقي والسياسي الحديث، في حين أن "التقليد السياسي اليهودي" هو إعادة بناء وتنظيم للتعاليم السياسية التلمودية. وكان "الخروج والثورة" قراءة للتقليد التفسيري لـ"سفر الخروج"، تنتقل بحرية عبر السجل النصي من التفسير اليهودي التقليدي للمدراش إلى "الأوراق الفيدرالية" ولاهوت التحرير. ‏
تلقى والزر الإلهام لكتابة الكتاب خلال زيارة قام بها إلى مونتغمري، ألاباما، في العام 1960، حيث ذهب لتغطية اعتصام يقوده طلاب سود، والذي وصفه بأنه "بداية التطرف في الستينيات". وهناك، سمع خطبة في كنيسة معمدانية ربطت بين "الخروج" اليهودي ونضال السود في الجنوب الأميركي. وقد صدمته العلاقة كثيرًا لدرجة أنه بدأ يرى الخروج وموسى في كل مكان ينظر إليه: الثوريون الأميركيون؛ أوليفر كرومويل؛ دعاة إلغاء عقوبة الإعدام؛ لاهوتيو التحرير ودعاة حركة الحقوق المدنية أوحوا جميعًا بفكرة "الخروج". وتوصل والزر إلى استنتاج أن "الخروج" ‏‏يجب أن يكون‏‏ النموذج للتحرر، الذي يحمل مفتاح التقليد الثوري بأكمله.‏
من المؤكد أن هذا الادعاء، كما يُقِرّ والزر عرَضًا، يتعارض تمامًا مع الثوّار الفرنسيين ومع ماركس، الذين لم يستندوا إلى السردية الموسوية. ومع ذلك، لا يبدو أن هذا العائق يقلق والز أو يُقوّض فرضيّته. وفي خطوة غريبة، يلتقط اقتباسًا عشوائيًا من نص لأحد أعضاء "لجنة السلامة العامة"، وهي الهيئة الثورية التي أُنشئت في العام 1793 للدفاع عن "الجمهورية الفرنسية الجديدة" في وجه التهديدات الداخلية والخارجية. يقول النص إن عهد الرعب والإرهاب ينبغي تحمُّله لمدة "ثلاثين إلى خمسين سنة". ويستخلص والزر من هذا أن الفرنسيين لا بد أنهم كانوا يستحضرون -بلا وعي- فترة "الأربعين سنة" التي قضاها بنو إسرائيل في التيه. هذا هو "الدليل" الذي يستند إليه في ادعائه الأساسي بأن سردية "الخروج"، حتى في حال غيابها الصريح، لا بد أن تكون فاعلة بطرية لا واعية، بحيث تُلوّن كل ما يُقال عن "التحرر" أو "الانعتاق".
لكن الأهمية السياسية الحقيقية للكتاب تظهر في الفصل الأخير، حيث يتم تناول الصهيونية بشكل مباشر. هناك يُميّز والزر بين ما يسمه "صهيونية الخروج" و"الصهيونية الماسيانية (المسيحانية)". ووفقًا لهذا التصنيف، تركز "صهيونية الخروج" على ذاكرة هروب بني إسرائيل من مصر، ورحلتهم التي استغرقت أربعين عامًا في الصحراء، ووصولهم إلى "الأرض الموعودة". وتركز "الصهيونية المسيانية"، من ناحية أخرى، على مجيء المسيح المستقبلي والقطيعة الكارثية التي ستصاحب هذا الحدث. وتعطي "صهيونية الخروج" الأولوية لوكالة الشعوب السياسية في تشكيل مصيرها الخاص، لأنها تروي حكاية كفاح ضد الاضطهاد، ودراما المخاض المؤلم للوصول إلى النضج السياسي بعد ذلك الاضطهاد. أما "الصهيونية المسيانية"، فهي أقلّ "مأساوية" في حساسياتها؛ إذ تسعى إلى قطيعة حاسمة ونهائية، وهي ليست مدرسة الصحراء الشاقة والبطيئة. صهيونية الخروج" معتدلة، عقلانية، قابلة للترجمة، ومتاحة لكل الثوّار، ومنفتحة على التأويل العلماني. بينما "الصهيونية المسيانية" تنتمي إلى اليمينيين الذين بذل والزر جهدًا كبيرًا للنأي بنفسه عنهم. وبذلك، يكون الهدف من الكتاب هو تقديم موقف فكري يمكّن "الصهيونية الليبرالية" من منافسة الصهيونية اليمينية على نفس الأرضية الدينية والنصوصية.
لكنَّ هناك حدودًا واضحة لهذه الاستراتيجية، بما أن قصة "الخروج"، مروعة أيضًا بطريقتها الخاصة. هناك غزو للأرض، وكذلك وصية إلهية بذبح سكانها. ويلاحظ والزر أن "الكنعانيين مستبعَدون صراحة من عالم الاهتمام الأخلاقي. وفقًا لوصايا "سفر التثنية"، يجب طردهم أو قتلهم -جميعهم رجالاً ونساء وأطفالاً- وتدمير أصنامهم". وهذا ما نسميه بمعايير اليوم الإبادة الجماعية. لكنّ والزر يستشهد بالحاخامات التلموديين والعصور الوسطى (بمن فيهم فيلسوف القرن الثاني عشر، موسى بن ميمون) الذين "ألغوا" هذه الوصية، لأنها "تنطبق فقط، كما جادل المعلقون، على مجموعات محددة من الناس، تمت تسميتهم في النص، والذين لم يعودوا موجودين أو لم يعد من الممكن تمييزهم". ويتم تناول هذه المسألة الحاسمة المتعلقة بالعلاقة مع الغرباء، أو سكان الأرض، في أربع صفحات فقط من أصل 200.‏
‏لهذا السبب عنون سعيد مراجعته للكتاب بـ"قراءة كنعانية" A Canaanite Reading. على الرغم من أن هذه النقطة ليست الهدف الوحيد لجدال سعيد، إلا أنها تشكل أساس المواجهة بأكملها. أكد الكتاب الحجة في مقال سعيد في العام 1979 "الصهيونية من منظور ضحاياها"، أن الصهيونية يجب أن تعتمد على خيال أن الأرض غير مأهولة. وإذا تم العثور على "غرباء" هناك، فإنهم إما "مستبعَدون صراحة من عالم الاهتمام الأخلاقي" أو أنهم "لم يعودوا موجودين أو لم يعد من الممكن التعرف عليهم"، على حد تعبير والزر. كان مكمن قلق والزر الوحيد هو الصهاينة اليمينيون الذين يستشهدون بوصية قتل جميع الأطفال والنساء لتبرير أفعالهم، ولكن لم يدهشه السؤال الحالي المتعلق بمعاملة سكان الأرض الآخرين. كتب والزر: "لا يمكن أن يكون للحظر (استبعاد قتل سكان الأرض) أي تأثير عملي. لن يواجه اليهود العائدون إلى الأرض الحثيين والأموريين"، من دون أن يُسمي من قد يواجهون.
يناقش النصف الأول من مراجعة سعيد الكتاب نفسه، في حين يمكن قراءة النصف الثاني من الكتاب على أنه "سوسيولوجيا مثقفين"، تضع عمل والزر في سياقه الاجتماعي والتاريخي. ويفتتح سعيد المقال باعتراف بسعة اطلاع والزر قبل الشروع في تقويض حجته.‏
يُطلق سعيد على تكتيك والزر اسم "الاشتمال بالتأجيل"، بمعنى أن والزر يستمر في تأجيل معالجة الاعتراضات أو القيود المحتملة على حججه، كما لو أنه سيعالجها لاحقًا، حتى تُنسى ويُحيَّد تأثيرها. يكتب سعيد: "في الواقع، ثمة ضباب ينشره نثرُه ليُغَشِّي تلك المشكلات التي تتضمنها حججه، لكنها تُؤجَّل ويتم تجاهلها بشكل عرَضي قبل أن تتسبب في إثارة المتاعب". أما التجنب الأكبر، والمهم في نظر سعيد، فهو تجنب التاريخ. والنتيجة، بحسب سعيد، هي إلباس أفكار شديدة المحافظة ثوبًا تقدميًا أو راديكاليًا.
كتب والزر في مقدمة الكتاب: "لا أقصد التقليل من شأن المقدس، إنني فقط أستكشف الدنيوي؛ ليس موضوعي ما فعله الله، وإنما ما فعله الرجال والنساء، أولًا بالنص التوراتي ذاته، ثم في العالم، مع النص بين أيديهم". ومع ذلك، كما يجادل سعيد، لا يستطيع والزر إنجاز هذا العمل المتمثل في "استكشاف الدنيوي"، لأنه يتخلى عن أي نوع من الدقة التاريخية. كان والزر يعتقد أنه يُعَلمِن المقدَّس، لكنه قد يكون، في الواقع، بصدد "قدسنة" الدنيوي.
كتب سعيد: "بالنظر إلى التاريخ الحديث، كان المرء ليتوقع أن يعيد والزر النظر في كل مسألة السياسة المستلهمة من المقدَّس، ويستخلص منها تأملات أكثر اتزانًا، وربما حتى أكثر وعيًا بالمفارقة، من تلك التي يقدمها". ولم يتوانَ سعيد في كيل نقده، وتساءل: "لماذا يبدو والزر غير جدلي إلى هذا الحد، تبسيطيًا جدًا، لا تاريخيًّا جدًا، واختِزاليًا جدًا"؟ (يُتبع)
 
‏*نادر أندراوس Nader Andrawos: باحث يعمل في الفكر الاجتماعي والسياسي والقانوني. كان سابقا زميلا مقيما لما بعد الدكتوراه في معهد القانون والسياسة العالمية في كلية الحقوق بجامعة هارفارد، ودرس في الجامعة الأميركية في القاهرة وجامعة تافتس. يعكف حاليًا على تأليف كتاب عن العلاقة بين النقد الفكري والاحتجاج والقانون في العالم العربي.‏
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Long Shadow of the Debate Between Edward Said and Michael Walzer