زيلينسكي و"خطة النصر".. هل من مقومات للنجاح؟
الغد
ماري ديجيفسكي* - (إندبندنت عربية) 2024/10/17
هل تذكرون كيف كان مجرد ظهور الرئيس الأوكراني، ولو بصورة افتراضية، يشكل الحدث الأكثر جاذبية من بين الأحداث الساخنة في العاصمة البريطانية لندن؟ عندما كان أعضاء البرلمان وأعضاء مجلس اللوردات يتزاحمون للحصول على مكان خال في الغرف المخصصة لمتابعة المجريات وقوفاً في البرلمان، لرؤيته وسماع ما يقوله؟ عندما كان الممثل التلفزيوني السابق الذي أصبح رئيساً منتخباً بصورة ديمقراطية ثم قائداً في زمن الحرب، يجذب الانتباه بتصميمه وشجاعته واستحضاره لتصرفات الزعيم البريطاني تشرشل؟ حسناً، إن الوقت الذي شعرت فيه بريطانيا بإحساس قوي بالفخر والحنين من خلال دعم أوكرانيا وإجراء مقارنات بينها وبين "أفضل لحظاتها" قد انتهى.
لم تكن هناك أي ضجة الخميس الماضي، وفي الواقع بالكاد كان هناك إعلان عن زيارة فلوديمير زيلينسكي الأخيرة إلى لندن. كانت هناك سجادة حمراء ومصافحة وعناق مع السير كير ستارمر على ذلك الباب الشهير لمقر رئاسة الحكومة، تلت ذلك الاستقبال نحو ساعتين من المحادثات خلف أبواب مغلقة، شارك فيها عسكريون ومسؤولون أمنيون من المملكة المتحدة، والأمين العام الجديد لحلف شمال الأطلسي مارك روته. وبعد الاجتماع والزيارة السريعتين غادر زيلينسكي متجهاً إلى فرنسا وإيطاليا قبل عودته إلى العاصمة الأوكرانية، كييف.
من ناحية اهتمام وسائل الإعلام في المملكة المتحدة بالزيارة، تقدمت على محطة زيلينسكي اللندنية على سلم الأولويات الصحفية إلى حد كبير التغطية المستمرة للإعصار في ولاية فلوريدا الذي بلغ في شدته الدرجة الثالثة، ولم تنجح الزيارة في احتلال الصفحات الأولى للصحف البريطانية، باستثناء تصدرها موقع هيئة الإذاعة البريطانية (بي. بي. سي) الإخبارية الرئيسة، ولفترة وجيزة.
لا أقصد من كل ذلك القول بأنها لم تكن للزيارة أي أهمية أبداً؛ لقد منحت الرئيس زيلينسكي فرصة أخرى ليقوم بعرض ما أطلق عليه اسم "خطة النصر" أمام جمهور ربما كان متعاطفاً معه. كما شكلت الزيارة أيضاً مناسبة أخرى لتقوم حكومة المملكة المتحدة الجديدة نسبياً بتأكيد تضامنها مع أوكرانيا.
لا أعتقد أن كل ذلك كان ضرورياً. كان رئيس الوزراء، ستارمر، قد وعد، حتى قبل تسلمه منصبه الجديد، بمواصلة تقديم الدعم البريطاني الكامل والقوي للرئيس زيلينسكي في مساعيه لطرد المحتل الروسي من الأراضي الأوكرانية. وكان وزير الدفاع البريطاني، جون هيلي، قد زار أيضاً منطقة أوديسا الأوكرانية بعد ساعات قليلة من تسلمه منصبه. كما كان ستارمر قد عقد اجتماعاً ثنائياً مع الرئيس زيلينسكي خلال قمة حلف شمال الأطلسي في واشنطن خلال تموز (يوليو) الماضي. وبعد ذلك بأيام قليلة، اجتمع مع زيلينسكي من جديد بحضور أعضاء الحكومة البريطانية جميعاً في "داونينغ ستريت" مباشرة بعد قمة المجلس السياسي لأوروبا الذي انعقد في بلينهايم.
في الواقع، لم يسهم الاجتماع الأخير سوى في تأكيد المواقف السائدة. فقد أشار إلى أن دعم المملكة المتحدة الأخلاقي لأوكرانيا ما يزال بنفس قوته؛ وأن حلف شمال الأطلسي بقيادة أمينه العام الجديد، مارك روته، ما يزال ملتزماً تجاه أوكرانيا تماماً كما كان عليه الوضع في عهد سلفه يان ستولتنبيرغ؛ وأن منح العضوية لأوكرانيا في حلف شمال الأطلسي ما يزال هدفاً تدعمه المملكة المتحدة. ومع ذلك، من الصعب ألا نلاحظ أنه خلال أشهر الصيف الماضي بدأت الحماسة البريطانية لدعم أوكرانيا في التضاؤل -ليس لأن كير ستارمر ليس بوريس جونسون الذي يبدو أنه ربما ما يزال يحتل موقعاً صغيراً في قلب الرئيس زيلينسكي؛ ففي نهاية المطاف، كان على الرئيس زيلينسكي التعامل مع عدد غير قليل من رؤساء الوزراء البريطانيين بعد جونسون- ولكن لأن زيلينسكي يواجه مزيداً من الصعوبات في مساعيه إلى الترويج لقضيته من أجل الحصول على مزيد من الدعم الغربي، من دون فرض مزيد من الشروط ووضع القيود على ذلك الدعم.
يرجع ذلك جزئياً إلى طبيعة تلك القضية. فخلال العامين ونصف العام الماضية من الحرب، طالب زيلينسكي وتلقى بالفعل، بمزيد من الأسلحة المتطورة جداً وذات المديات الأبعد بكثير بعد اعتراضات أوروبية سجلت في البداية، وكان طلبه الجديد هو السماح لأوكرانيا باستخدام صواريخ "ستورم شادو" التي قدمتها المملكة المتحدة لضرب أهداف في العمق الروسي، وهي خطوة حذرت موسكو من أنها ستنظر إليها بوصفها تدخلاً مباشراً للمملكة المتحدة في تلك الحرب. وحتى لو بدا، ولو بصورة مفاجئة للغاية، أن هناك في المملكة المتحدة سياسيين كباراً يرغبون في مواجهة مع روسيا، إلا أن هناك في مقابلهم أعداداً أخرى من السياسيين في فرنسا وألمانيا وإيطاليا ممن يعارضون مثل هذه المواجهة تماماً.
وهناك سبب آخر لتراجع الحماسة تجاه أوكرانيا يتعلق أيضاً بأوضاع وسير تلك الحرب. فالأيام التي شهدت تسجيل الأوكرانيين أعمالاً بطولية حققوا من خلالها النصر تلو النصر في مواجهة معتد هو بمثابة قوة عظمى، أصبحت أقل وأقل، وما تزال أوكرانيا تخسر الأراضي في منطقة دونباس شرق البلاد، ومصير الاختراق الذي قامت به قوات كييف في منطقة كورسك الروسية ما يزال غير واضح، وبشكل من الأشكال يبدو أن الأفضلية في ساحة المعركة تميل لمصلحة روسيا.
وهناك سبب آخر إضافي، لكنه يعود إلى التطورات السياسية التي تجري في أماكن أخرى. بينما ما يزال الدعم لأوكرانيا قوياً وحازماً بشدة في كثير مما تعرف بأنها من "دول المواجهة" والواقعة في وسط وشرق أوروبا، يبدو أن تلك الحماسة بصدد التراجع في الدول الواقعة في غرب تلك القارة. ومن بين هذه الدول ألمانيا حيث يبدو أن المعارضة لتلك الحرب في ازدياد. وتعود الأسباب، في جزء منها، إلى التكلفة المالية، وفي جزء آخر إلى ما ينظر إليه على أنه مخاطرة بالسلم الإقليمي.
والأمر نفسه قد ينطبق على المملكة المتحدة. فعلى الرغم من غياب الجدل الشعبي حول القضية، فإن من ينتقدون الموقف من الملف الأوكراني يشيرون إلى الشيك على بياض الممنوح لمساعدة أوكرانيا، مقارنة بالتضحيات التي تطالب الحكومة بأن يقوم بها الشعب محلياً لسد الفجوة المالية الضخمة التي تقدر بمليارات الجنيهات. لكن اللاعب الرئيس هنا هو الولايات المتحدة الأميركية.
الحقيقة المرة هي أنه لو كتب لألمانيا أو المملكة المتحدة (وهما تحتلان المرتبتين الثانية والثالثة في ترتيب الدول المانحة للمساعدات لأوكرانيا) أن توقفا توريد الأسلحة في الغد لأوكرانيا، فإن ذلك سيؤثر على قدرة أوكرانيا، لكنه لن يعوقها مطلقاً. أما إذا توقفت الولايات المتحدة أو قلصت بصورة جدية مساعداتها لكييف، فإنها ستكون مسألة وقت فقط قبل أن تشعر أوكرانيا بأنها تواجه عجزاً حقيقياً.
والولايات المتحدة، التي هي اليوم في وسط مخاض انتخابات متقاربة جداً، وفي الوقت نفسه منشغلة بمواجهة تداعيات نزاع على جبهات عدة مفتوحة في منطقة الشرق الأوسط، كانت مترددة في الموافقة على أي شيء من شأنه أن يوسع نطاق الحرب إلى الداخل الروسي، أو ما من شأنه أن يجعل من الولايات المتحدة أو أي من حلفائها هدفاً مباشراً لرد روسي.
الواقع أن الولايات المتحدة، والولايات المتحدة فقط، هي من يقرر مسألة استخدام صواريخ "ستورم شادو" وصواريخ "أتاكامس" التي تصنعها الولايات المتحدة الأميركية ضد العمق الروسي من عدمه، وهو الموضوع الذي كان السبب وراء مهمة المملكة المتحدة الفاشلة الشهر الماضي لتغيير الموقف الأميركي. وقد اصطحب رئيس الوزراء كير ستارمر عدداً من كبار الوزراء في حكومته إلى الاجتماعات التي جرت في واشنطن، ولكنه عاد منها خالي الوفاض، والأمر نفسه حدث لزيارة الرئيس زيلينسكي إلى كل من نيويورك وواشنطن بالتزامن مع انعقاد الجمعية العمومية للأمم المتحدة.
لو كانت الهجمات الأوكرانية على الداخل الروسي، كما هو مفترض، هي حجر الأساس الذي ترتكز عليه "خطة النصر" التي يطرحها زيلينسكي، فيبدو أن هناك فرصة شبه معدومة لإحداث أي تغيير في هذا الموضوع. ولا يبدو أيضاً أن هناك أي تغيير محتمل في التردد الواضح للرئيس بايدن بشأن الموافقة على تسريع انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، وهو ما يُعتقد أنه العنصر الرئيس الآخر في "خطة النصر".
ليس من الواضح ما إذا كانت جولة الرئيس زيلينسكي المصغرة في أوروبا قد خطط لها مسبقاً، أو ما إذا كانت في الواقع بديلاً في اللحظة الأخيرة عن اجتماع طال انتظاره بين أوكرانيا وقادة حلفائها الغربيين في رامشتاين؛ القاعدة العسكرية الأميركية قرب فرانكفورت في ألمانيا، الذي كان من المقرر عقده في الحادي عشر من تشرين الأول (أكتوبر) الحالي. وفي دليل إضافي على مدى مركزية دور الولايات المتحدة في أي قرار يتعلق بالسياسة الأوكرانية، تم تأجيل ذلك الاجتماع، وهو ما يعتقد اليوم أنه أُلغي بعد انسحاب بايدن من الحضور.
السبب الرسمي لإلغاء الاجتماع كان "إعصار ميلتون" الذي أدى إلى تقييد حركة السفر، وكان الرئيس الأميركي مضطراً إلى البقاء في واشنطن للتعامل مع أي كارثة قد تقع. ومع ذلك، كان إلغاء اجتماع قاعدة رامشتاين برمته مفيدًا بالتأكيد بالنسبة لأولئك المعارضين لأي تحرك من شأنه أن يبدو وأنه بمثابة توسيع للحرب في أوكرانيا. وبصورة عملية، سيؤدي ذلك الموقف إلى اعتبار أن "خطة النصر" للرئيس زيلينسكي قد وُضعت على الرف إلى أجل غير مسمى.
من الصعب تصور اتخاذ الرئيس بايدن أي قرارات مصيرية متعلقة بأوكرانيا قبل الانتخابات الرئاسية، وهو إجراء طبيعي لأي رئيس توشك ولايته على الانتهاء، تجنباً لاتخاذ أي خطوات قد تقيد يدي خليفته خلال الفترة الانتقالية. ويعني هذا أن على الجميع الانتظار حتى منتصف كانون الثاني (يناير) المقبل.
إن "خطة النصر" التي يطرحها زيلينسكي يمكن أن تكون واقعية أو غير واقعية. ولكن يمكن القول اليوم إن زيلينسكي يواجه سباقاً حاسماً مع الزمن. وتشير الاحتمالات إلى أنه من غير المرجح أن يُنظر في تلك الخطة، ناهيك عن إمكانية الموافقة عليها، قبل تسلم الرئيس الأميركي الجديد ولايته أو قبل أن تؤدي المكاسب الروسية إلى تساؤلات حول مبررات استمرار أوكرانيا في القتال، أيهما يحدث أولاً. وسيكون البديل من دون شك هو عمل أحادي يحمل في طياته تهديدات كبيرة، مع كل ما قد يترتب على ذلك من نتائج.
*ماري ديجيفسكي: كاتبة لصحيفة "الإندبندنت" مختصة في الشؤون الخارجية. عملت مراسلة في موسكو وباريس وواشنطن. وكتبت حول انهيار الشيوعية والاتحاد السوفياتي السابق من داخل موسكو، كما غطت حرب العراق. وهي مهتمة بالعلاقات الدبلوماسية بين الكرملين والغرب.